الديمقراطية..فلسفة الثواب والعقاب

 

   اذا اردنا ان نلخص جوهر الديمقراطية بعبارة جامعة، فنقول بانها (فلسفة الثواب والعقاب) وليس المقصود بذلك المفهوم الديني المتعلق بيوم الحساب، وانما المقصود به هو اثابة او معاقبة المسؤول عند عتبة صندوق الاقتراع، الفلسفة التي نستوحيها من عهد الامام علي امير المؤمنين (ع) الى مالك الاشتر النخعي لما ولاه مصر، والذي يوصيه بالقول {وَلاَ يَكُونَنَّ الْـمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَة سَوَاء، فَإِنَّ فِي ذلِكَ تَزْهِيداً لاِهلِ الاْحْسَانِ فِي الاْحْسَانِ، وتَدْرِيباً لاِهْلِ الاْسَاءَةِ عَلَى الاْسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ}.

   ان اية انتخابات اذا عاقب فيها الناخب المسؤول لفشله او تقصيره او سوء ادارته او جهله، فحجب عنه ثقته ليسقط عن موقع المسؤولية، فذلك هو الجناح الاول من الديمقراطية، واذا اثاب الناخب مسؤولا ناجحا ومتمكنا من عمله ومثابرا وحريصا على تحقيق اهداف الناخبين، فجدد له الثقة وابقاه في موقعه، فذلك هو الجناح الثاني للديمقراطية، وبهما تطير وتتقدم وتنهض وتتطور، اما صندوق الاقتراع الذي لا يعاقب فاشلا ولا يثيب ناجحا، وان الامر عنده سيان، والنتيجة بالنسبة اليه لا تختلف كثيرا، فهذا يعني ان الناخب الذي وظف اداة الديمقراطية، واعني بها صندوق الاقتراع، لم يفهم بعد جوهرها ولم يفهم بعد فلسفتها، ولذلك فان عليه، في هذه الحالة، ان يعيد النظر في المفاهيم والرؤية.

   السؤال هو: ما هي شروط الثواب والعقاب؟ وكيف تتحقق؟.

   اولا: ان فلسفة الثواب والعقاب لا تتحقق بليلة وضحاها، وانما هي عملية تراكمية من خلال التجارب الانتخابية التي يمر بها الشعب، ويخطئ من يظن بان لعصا موسى السحرية دور في مثل هذا الامر، لان فلسفة الثواب والعقاب تعتمد اولا وقبل كل شئ على وعي الناخب وخبرته وتجربته، من جانب، ومقدار ما يستذكر من كل ذلك، من جانب آخر، والا فما فائدة ان يتعلم الناخب من التجربة الا انه لا يستحضرها عندما يقف في كل مرة امام صندوق الاقتراع، فتراه، مثلا، بدلا من ان يستحضر الخبرة والتجربة، اذا به يستذكر العلاقات الشخصية او الانتماءات العشائرية او الولاءات الحزبية الضيقة، وهو يعرف جيدا بان كل هذه وغيرها لا تنفعه ابدا، حتى اذا حقق بها بعض المصالح الشخصية الضيقة، الا انها على الصعيد الاستراتيجي لا تنفعه شيئا، اذ سيرى بان المرشح الفائز، في هذه الحالة، سينساه بمجرد ان يحصل على ثقته، فلم يعد يهتم به ويتابع طموحاته او يحقق الادنى من شعاراته التي بنى عليها حملته الانتخابية.

   ثانيا: انها بحاجة الى مثابرة واستدامة، فالتجربة والتجربتين لا تكفي لوضع الفسلفة على السكة الصحيحة، وبقراءة موزونة لتجارب كل شعوب العالم الديمقراطي سنلحظ بانها لم تنجز ما نراه اليوم الا بشق الانفس، وعبر سنين طويلة، بدات فيها الديمقراطية ربما كاضحوكة او كشئ غير مفهوم، لتنتهي الى ما نراه اليوم.

   خذ مثلا على ذلك الديمقراطية في الولايات المتحدة، فلقد بدات اول ما بدات كحق لدافعي الضرائب فقط، اذ لم يكن يحق للفقراء بالادلاء باصواتهم، فضلا عن عدم حقهم في الترشيح لا لمنصب رئاسة الجمهورية ولا لعضوية الكونغرس بمجلسيه، النواب والشيوخ، اما المراة والسود فلم يكن لهم الحق حتى بالمرور من امام صندوق الاقتراع، لان ذلك يفسد العملية الديمقراطية برمتها، فكان عليهم ان لا يخرجوا من بيوتهم يوم الاقتراع حتى  لا يفسدوا فرحة البيض الاثرياء فقط وهم يدلون باصواتهم في اية انتخابات تشهدها البلاد.

   ومع مرور اكثر من قرنين من الزمن، تطورت العملية الانتخابية بشكل درامي وملفت للنظر، انتهت لحد الان باصدار آخر تشريع في قانون الانتخابات (في العام 2008) والذي اوجب على الحكومة تهيئة كل المستلزمات الضرورية لمساعدة وصول ذوي الاحتياجات الخاصة الى المحطة الانتخابية.

   نحن في العراق كذلك بحاجة الى المثابرة، من دون ان احدد زمنا معينا، فالعالم تغير والظروف تغيرت والتجارب والخبرات اضحت اليوم في متناول الجميع جراء التكنلوجيا ونظام القرية الصغيرة، من اجل ان نكرس ونطور تحربتنا على احسن ما يرام، اما ان نتعامل مع الديمقراطية بضيق صدر، فنستعجل الخبرة والنتائج، كتلك التي نراها اليوم في العالم الديمقراطي، فان ذلك سوف لن يساعدنا في شئ، فالاستنساخ ليس هنا محله، فلكل تجربة خصوصياتها ومقوماتها ولكل شعب وعيه وفهمه، ولذلك لا يجوز باي حال من الاحوال ان نستنسخ التجارب بحذافيرها، نعم يمكن دراستها والاستفادة والتعلم منها، اما الاستنساخ فلا.

   ان المثابرة تعني فيما تعنيه ان نتعامل مع الامر بطول نفس وبتاني وباستمرارية لا تنقطع، ولذلك ورد عن امير المؤمنين (ع) قوله {قليل مدوم عليه، خير من كثير منقطع} لان الديمومة تساعد على تراكم الخبرة والتجربة وهو الامر المطلوب في مثل هذه الحالة، فاذا كان الامر قليل بحجمه وتجربته وخبرته، فان الديمومة تنميه، والعكس هو الصحيح، فالامر الكثير اذا ما انقطع عن التواصل والاستمرار والديمومة، فانه سيصغر وقد يضمحل ويتلاشى، لان للزمن دوره في انضاج الامور، المادية منها والمعنوية.

   ثالثا: ان مبنى العقلاء في كل العالم، هو البحث عن مرشح لموقع المسؤولية الذي يراد ملؤه، اما عندنا فالعكس هو الذي يتم التعامل به، فترانا نبحث للمرشح عن موقع مفصل على حجمه، ما يعني ان قاعدتنا في التعامل مع الموقع والمسؤول لا تتطابق ومبنى العقلاء، ولذلك ترانا لم نملأ يوما موقع لمسؤولية على قاعدة (الرجل المناسب في المكان المنالسب) فعكس هذه القاعدة هو الذي يحكم تصرفاتنا والتي تقول (الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب) ولذلك ترى المرشح الواحد نملأ فيه فراغات كثيرة، بغض النظر عن مدى استيعاب هذا الفراغ له ولقدراته وكفاءاته، حتى امتلأت الكثير من المواقع بالجهلة والاميين وعديمي الخبرة والكفاءة، فضلا عن النزاهة والحرص وروح المسؤولية.

   اذا اردنا تصحيح هذه المعادلة الخاطئة والطريقة غير السليمة، فان علينا ان نحدد معاير المرشح للموقع، من جانب، وكذلك تحديد معايير الموقع الذي يراد ملؤه، ثم نسعى لان تتطابق المعايير الخاصة بالموقع مع تلك الخاصة بالمرشح، وعندها فسنختار الافضل من بين مجموع المرشحين، ولا يتحقق ذلك الا اذا تعاملنا مع الموقع والمرشح بتجرد وموضوعية، اما اذا تعاملنا مع الامر بالرشوة والمحسوبية والعلاقات الخاصة والانتماءات الضيقة والولاءات الشخصية، فان ذلك، بالتاكيد، سوف لن يحقق المرجو لا من الديمقراطية ولا من صندوق الاقتراع، ولا يمكن، في هذه الحالة ان نحقق مبدا (الرجل المناسب في المكان المناسب).

   رابعا: واخيرا، فان الديمقراطية تعتمد مبدا الحقوق والواجبات، فاما الحقوق فتختلف اختلافا جذريا عن الرغبات والتطلعات، فالاخيرة قد لا ينالها المرء لسبب من الاسباب، اما الاولى فلابد من ان يتمتع بها المواطن على اية حال، اذ لا يجوز سحقها والتجاوز عليها بحجة الصالح العام او الظروف الاستثنائية او حالة الطوارئ او ما الى ذلك من العناوين التي يتخندق بها المسؤول لمصادرة حقوق المواطنين.

   ان الحقوق هي المقدمة لنيل المواطن رغباته، لانها تهئ الارضية المناسبة لنجاحاته التي يحقق بها رغباته المشروعة، في التنمية والتطور والنهوض بعلمه ووضعه الاقتصادي والاجتماعي والصحي وغير ذلك، فاذا سحقتها السلطة انتهى المواطن الذي سيتحول في هذه الحالة الى خشب مسندة.