بعض القضايا والحوادث لا تحتاج إلى دراسة وتحليل.. أو كما يخبرنا الفلاسة، لا تقبل منطق الفرضيات التي تفضي في النهاية إلى استنتاج.. لذلك يستعاض في هذه الحال بالصور التي تتحول من تلقاء نفسها إلى شريط مترابط الأحداث.. وعندها نتوصل إلى جوهر الحكاية.. بدل الغوص في استنتاجات وتصريحات لا تمت إلى المشكلة بصلة. منذ أن قال المالكي عام 2010 في خطاب متلفز أن "الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة، وقواتنا الأمنية تمسك بالأرض" ونحن نشعر بأننا أمام شريط سينمائي يعرضه أصحابه على طريقة "الفلاش باك" وقد كانت هذه طريقة رجل التحريات الشهير شرلوك هولمز في التحليل، فالبحث عن الألغاز يبدأ بعد حصول الجريمة باستعادة الشواهد والصور.. لأنها هي التي تشكل الأحداث.. ولكي نفهم لماذا قال المالكي إن القوات الأمنية انتصرت في معركتها على الإرهاب.. يجب أن نعيد الأضواء إلى مشهد درامي يبدأ منه الفيلم المثير المليء بالخطب والعنف والدماء والتصريحات المتناقضة.. حيث تروى القصة من نهايتها واسمحوا لي أن أعتقد وربما أنا "غلطان" من أن الخاتمة بدأت في المشهد الأول: نوري المالكي يخطب من النجف في يوم 21/12/2010، وفجأة يترك الحديث عن الخدمات والأمن وبناء دولة المؤسسات ليوجه سهام نقده إلى القوى الليبرالية والمدنية التي اتهمها بأنها من " دعاة الرذيلة يحاولون الإفادة من هذه الحريات لإشاعة الفحش والفجور والانحراف ويعملون من أجلها دون مراعاة للآداب العامة لهذه الأمة ولهذا الشعب المسلم".. المشهد آنذاك لم يتطرق إلى دعاة القتل على الهوية وسراق المال العام ومثيري النعرات الطائفية. في هذا الفصل المثير من الفيلم، نجد رئيس الوزراء يغتال المشروع الذي مكنه من الحصول على ولاية ثانية، وهو المشروع الذي استمعنا إلى بعض من بنوده خلال جلسة تشكيل الحكومة، حيث دعا انذاك إلى ترسيخ: "روح المواطنة وإشاعة الحياة المدنية وتعزيز سلطة الدستور".. إذن نحن أمام رجل يقتل المشروع الذي أوصله إلى السلطة ويمارس عادة العناد.. ننتقل بالمشهد الآن إلى بغداد وعدد من المحافظات.. لنجد رؤساء مجالس محافظات ومحافظين يتباكون على الأخلاق التي هدرت.. بعدها بدأت العديد من الإجراءات التعسفية ضد كل من يختلف مع قرارات المالكي.. مهلا لم ينته المشهد بعد، فما أن أعلن رئيس مجلس الوزراء الانتصار في المعركة ضد الإرهاب.. حتى بدأ يبحث عن أشقاء أو "أشقياء" يساندونه في نظريته الداعية إلى نشر "الفضيلة" وكما في رواية "الإخوة كرامازوف" نجد رجالا يصرون على أن ملف الأخلاق الحميدة أهم من ملف تحسين أوضاع الناس وضمان أمنها واستقرارها، لنعيش مع المالكي وهو يرفع سبابته ليعلن أن الخطر الحقيقي يكمن في المطالبات بالإصلاح السياسي وباستقلال القضاء والكف عن سياسة الهيمنة على مؤسسات الدولة.. يقفز المشهد هنا فورا إلى صورة رئيس مجلس الوزراء يقدم لأعضاء ائتلاف دولة القانون الفأس لتدمير كل شيء.. من بداية الدورة الثانية لحكمة إلى زمن لا يريد له أن ينتهي.. لتصبح شعارات دولة القانون كلها أوراق مشى فوقها المالكي، وهو يدخل إلى مكتب رئاسة الوزراء، ليخرج كل يوم معلنا أنه يخوض حرب تطهير العراق من الأعداء، كرداً وسنّة ومسيحيين وإيزيديين، ولا يهم أن ينضم إلى قائمة العدو" المفترض " شيعة معتدلين لا يريدون خوض حرب تقرير المصير. هل سنصل إلى المشهد الأخير؟ لا أعتقد، فكما في مسرحيات شكسبير دائما، تظل النهاية مفتوحة على أسوأ الاحتمالات.. ألم يقل عطيل يوما أن العدو يعيش مع الهواء الذي نتنفسه.. أما مكبث فلم يتورع لحظة واحدة عن شيء في سبيل السلطة.. فلا يهم أن يقحم البلاد في حرب أهلية، فالكل "فقاعات" مادامت السلطة تحب الكثير من القرابين.. فالحاكم مصاب بهوس الكرسي، ولا يهم أن يكون الدواء الشافي مزيدا من القتل والدماء... والباقي من المشاهد مؤامرات، وسعي حميم لنهب كل شيء.. ومعارك من أجل ترسيخ الاستبداد.. كل مشهد يعيدك إلى مشهد أقدم.. وفي المشهدين نجد من يكذب ويقتل ويراوغ ويسرق ثم يشير بسبابته ويسألك: ألسنا في بلاد تتعرض لمؤامرات خارجية؟! هل يستحق المواطن كل هذا الظلم؟ ألا يكفيه الإهمال والذل والقهر وغياب الأمن والخضوع إلى الأبد؟ والحكم عليه بألا يناقش في شيء! فمتى وجدنا مواطنا يناقش؟ متى وجدنا من يعترض على عصمة رئيس مجلس الوزراء وقداسة منصبه؟ يعتصم عشرات الآلاف في الساحات، فيكون الرد جاهزا أنها مسألة "فقاعات" وستنتهي.. كأنما المسألة مشهد في فيلم كوميدي.. لا مصير بلد ومستقبل مواطنين! والآن هل وصلنا إلى مشهد النهاية.. وأن الدولة خطفت بالفعل.. وأن حياة الناس ومستقبلها يقررها رجال غامضون.. وفق قواعد يضعها مسؤول يريد فرض سلطانه باسم، طائفة أو سلاح أو مليشيا؟! هذا هو ترتيب الحكاية التي تحدث في الكواليس لتملأ الفراغ السياسي.. أَعِدها أنت عزيزي القارئ ورَتِّبْها كما شئت.. وحاول أن تراجع شريط المالكي.. جيدا . |