مرحبا ايها الحزن |
كتبت فرانسوا ساغان، في روايتها (مرحبا ايها الحزن) تصف سيدة تناظرها في خلال اجتماعي: "كانت من نوع النساء، اللواتي يستطعن الكلام، وهن منتصبات، من دون ان يتحركن. اما انا فاحتاج الى مقعد وشيء امسكه بيدي ولفافة تبغ والى تحريك ساقي، وانا انظر لها". فرانسوا ساغان.. روائية فرنسية، كتبت (مرحبا ايها الحزن) ولها من العمر سبع عشرة عاما، خلال الاربعينيات، تلتها بمجموعة من الروايات، كرست مدرسة ادبية حملت عنوان (تيار الوعي) قائمة على مبدأ التداعي الحر، في علم النفس. هذا المقطع من الرواية، شغل مخيلتي.. بجمال بلاغته وعمق الفكرة التي نسجته ساغان على نولها؛ فهو مقطع عرضي، مكتف بذاته.. دراميا، لخص التفاوت بين قوة الآخر وتهافت الذات إزاءه، وهو تهافت يحسب للضعيف على القوي. تلك هي الدهشة التي يحققها الفن.. ادبا كان ام سواه، فبالاستناد الى الواقع؛ تاخذ شريحة مقتطعة من نص روائي، مداها الدرامي؛ لأنها تحمل عناصر القص كافة.. مكان وزمان وشخصيات و انفعال. اذن فهي.. ميني او سكيج او مصغر رواية؛ ما يجعلها قصة قصيرة جدا، بالمعنى النقدي السليم لهذا الفن المستحدث، بعد صدور رواية (مرحبا ايها الحزن) بعقود. وقريبا من الجمال الادبي، الذي سابني رؤياي الى جواره، من دون ان اتخطاه، ساتحدث عن التطبيقات الاجتماعية السائدة في حياتنا لهذا الانموذج من البشر. كثيرا ما نجد انفسنا مغرقين باريحية تصادر شخصياتنا، وتضعفنا امام نظرائنا في الحياة اليومية؛ لانهم متماسكون ونحن نعيش طراوة الطفولة الغضة الطروب.. نستجمل ضعفنا تلذذا بجلد الذات. غالبا ما يظن المثقف انه يسمو بتلاشيه ازاء الآخرين، في حين هو يرتكس سافحا ذاته، في مقارنة يشاء ان يكون الاضعف فيها، من دون ان يجرب محاولة ان يكون الاقوى. صحيح لا يقوم نص جمالي.. رواية او لوحة او مقطوعة موسيقية، الا من كونتراس.. حمال نقائض، يتضاد فيه الضعف مع القوة والجمال مع القبح والحسن مع الرديء، في خلطة سحرية يجيد الفنان.. اديبا او سواه، الابداع بها، لكن اقتران المثقف بالخسارة، تركيب غير عادل لا يليق بسمو وعيه. فالوعي ليس كما معلوماتيا ينتظم في الحافظة، بين فصوص الدماغ؛ انما ترتاتبية ادائية تنتشل حاملها من ترديات الوجود حوله، عبر اجادته تحويل المعلومة الى سلوك. وبهذا فالمثقف، هو الذي يعرف من كل شيء شيئا، والثقافة هي الاستقامة في الحية.. الاستقامة لا تتحقق في حياة ملتبسة ذات مطبات وانعطافات حادة، انما تتسق بتقويم الفرد سبيله وهو يتقدم على استوائها او يرتقي مدارجها. ان ساغان في هذا المقطع، من روايتها العظيمة (مرحبا ايها الحزن) نظمت مقطوعة درامية شيقة، يمكن اعتمادها، دراسة في علمي النفس والاجتماع.. سايكولوجي وسوسيولوجي، واطرت وجود فتاة سعيدة بتهافتها مقابل قوة خصيمتها. هكذا يجد القارئ نفسه يحب حالة على سطور الرواية، يكره ان يكونها، وتلك هي ميزة (التداعي الحر) في الطب النفسي، الذي يتكامل بـ (تيار الوعي) في الادب. استحضر هذا المقطع من رواية تشكلت بها فرانسوا ساغان، بتلذذ جمالي ممتع، متمنيا على نفسي، وعموم زملائي في الثقافة العراقية، ان يكونوا اقوياء اجتماعيا، مع الحفاظ على الدفق الجمالي الساحر؛ فليس بالضرورة كل ذواق رفيع، ضعيف الشخصية؛ لان الثقافة الانسانية، غادرت فكرة المثقف المأزوم اجتماعيا، منذ الستينيات.. منذ قاد الفيلسوف هربرت ماركوز ثورته الشبابية، واتضح انه هو من معه، مجيرون لمصالح كبرى من دون ان يعلموا، فاوقفوا مساعيهم الثقافية لخلق مجتمع مثالي، وانكفأوا على اعداد ذواتهم؛ بحيث لا يستغفلون ثانية. وبهذا احبط تيار ماركوز الشبابي، جوهريا، ولم يبق منه سوى فكرة الهيبز البوهيمية، كناتج عرضي على هامش التجربة، انتشرت في انطقة ضاقت في بعض انحاء العالم، واتسعت في انحاء اخرى، وتلاشت الان امام صرعات اشد تأثيرا في البنية الكونية للفرد وسط المجتمع. وبهذا لم يبق لساغان ان تقعد ممسكة لفافة تبغ.. تحرك ساقيها، ناظرة الى امرأة تتكلم بثبات اجتماعي منتصب، انما آن لها.. كمثقفة.. ان تقوم تلك السيدة، وتحتكم الى دفق الوعي الذي تتحلى به والكم المعلوماتي الذي يعطيها ارجحية تجعلها الاثبت في الكلام من دون تحريك الساقين بفطارية بلهاء. آن للمثقف ان يقوم ذاته؛ كي يضفي وعيه على المجتمع.. قائدا ليس مقودا.
|