منذ مدة ونحن نشاهد سعر صرف الدينار العراقي، وهو يتراجع بعد أن كان يحافظ على سعر صرف مستقر نوعا ما، الأمر الذي يتبادر معه سؤال كبير، ما هو السبب في تراجع قيمة الدينار؛ هل أن السبب في ذلك يرجع الى ضعف السياسات الإقتصادية التي يتبعها البنك المركزي؟ أم أن هناك أسباب أخرى؟
القاصي والداني يعرف تركيبة الإقتصاد العراقي، فهو إقتصاد ريعي يعمل على محورين متناقضين؛ المحور الأول: أن إقتصاد الدولة يهيمن على 80% من الناتج المحلي الإجمالي، أو ما يسمى توليد الدخل الوطني؛ بالإضافة الى مسؤوليته مسؤولية مباشرة عن توفير 99% من التدفقات النقدية الداخلة من النقد الأجنبي؛ وما يتبعه من إرتباط مباشر للإصدار النقدي للبنك المركزي بحركة تلك التدفقات. المحور الثاني: إقتصاد السوق الذي يمتلك الفاعلية الأكبر في الإدارة غير المباشرة لنتائج إقتصاد الدولة، وهو ما تعكسه الموازنة العامة في النفقات الحكومية والتي تمثل 60% من مجمل الإنفاق الحكومي. وما يؤشره من إنفراد لهذا السوق بالتدفقات الخارجة من البلاد من النقد الأجنبي، ورغبة السوق في الإستحواذ على العملة الأجنبية والمتراكمة من إحتياطيات البنك المركزي والتي تمثل غطاء لتلك الحقوق.
عندما يهيمن السوق الحر على مجريات الأمور في الإقتصاد، وإطلاق الحرية في عملية التحويل الخارجي بالإضافة لإستخدام سياسة الباب المفتوح في التجارة الخارجية للقطاع الخاص، ومع غياب الرؤية لإستراتيجية التطور والتنمية والنهوض بالواقع الإقتصادي، فإن الإقتصاد يتحول الى ثنائية شديدة من الريعية في توريد العملة الأجنبية الى التجارة الخارجية وتمويل تجارة الإستيراد ذات الطابع الإستهلاكي، الأمر الذي يجعل من العراق حاضنة للإستهلاك وتصديرها الى إقتصادات بلدان أخرى.
عمل البنك المركزي العراقي على مسك العصا من الوسط لتحقيق التوازن بين تناقضين هما: إقتصاد الدولة ومسايرة الإقتصاد الريعي، والأخر مجاراة السوق الحر؛ والتي تخدم النشاط التسويقي الداخلي وحركة الأموال نحو الخارج بغض النظر عن النتائج المتوخاة لبناء نموذج إقتصادي يولد حركة تدفقات داخلة وخارجة بالعملة الأجنبية بعيدا عن هذه الثنائية أو الإستقطاب الشديد بين إقتصادين مختلفين ( إقتصاد الدولة وإقتصاد السوق)، وبين تدفقات داخلة بالعملة الأجنبية يوفرها إقتصاد الدولة، وأخرى خارجة من العملة الأجنبية يلهث خلفها القطاع الخاص.
إزاء ذلك كله، ماذا كان رد فعل السلطة النقدية المتمثلة بالبنك المركزي العراقي؟ لقد مارس البنك المركزي العراقي سياسة تدخل في سوق الصرف ليصل الى مستوى مستقر لسعر الصرف" وهو ما لاحظه المواطن طيلة الفترة التي كان السيد الشبيبي محافظا للبنك المركزي" بحيث إستطاعت السلطة النقدية أن تحافظ على مستوى مستقر للأسعار، هبط التضخم من مستويات ذات المرتبتين العشريتين الى المرتبة العشرية الواحدة، أضف الى ذلك إرتفاع إحتياطيات البنك المركزي من النقد الأجنبي الى المرتبتين العشريتين من حيث القيمة الدولارية " وهي الأعلى في تاريخ البلاد" ومع هذا فإن البنك المركزي لم يستطع حسم المعركة مابين إقتصاد السوق وتطلعه الى الربح، وما بين إقتصاد الدولة ونزوعه الى التفرد في محاولة منه للبحث عن الربح الإجتماعي؛ وهي نظرة تفتقر للرؤية الإقتصادية لحركة النظام الإقتصادي العراقي. الأمر الذي جعل من الإقتصاد العراقي ضائعا في محاولة منه للبحث عن حلول ناجعة، الأمر الذي نتج عنه تدهور في سعر صرف الدينار العراقي، إن التوجه نحو الحرية الإقتصادية، ومبادلة العملة الأجنبية بالحقوق الممسوكة بالدينار لغرض تحقيق الإستقرار الإقتصادي، فرض عبئا على السياسة النقدية للبنك المركزي للتدخل اليومي لبيع الدولار في محاولة للحفاظ على إستقرار سعر صرف الدينار العراقي أمام بقية العملات الأجنبية، وهو الأمر الذي يحتاج الى قرار جريء يوضح الخطوط العامة للإقتصاد؛ فأما الإنتقال الى سياسة الباب المفتوح مع تحمل كافة التبعات من جراء الإستنزاف الحاصل في عوائد النفط لضمان رفاهية الفرد وإستقراره " مع غياب واضح لسياسة تنموية في بقية القطاعات الإنتاجية" الأمر الذي تقرره القيادات السياسية في البلد ولا دخل للبنك المركزي فيه بسبب عدم إكتمال معالم النظام الإقتصادي للبلد بعد أن كثر الحديث عن تحويل مبلغ 180 مليار دولار بين عامي 2003 و2012 ، ولدها إقتصاد الدولة بعد إنفاقه لنفس الفترة عبر الموازانت العامة مبلغ 450 مليار دولار، بقي فيها إقتصاد التنمية غائب لعدم وجود مناخ جاذبة للإستثمار وما لم تحسم الرؤية الاقتصادية لهذا التناقض، وتطلق آليات السوق الحر كما ترغب فيها القوى الاقتصادية الناشئة بعد العام 2003 ، فان نتائج الاستقرار الاقتصادي ستستمر مبهمة وستجعل البلاد تتعايش مع إضطراب أسواق صرف موازية الى أمدٍ غير معلوم في نتائجه وربما ستكون وخيمة في إستقرار الأسعار ومستوى المعيشة وتشكل هواجس يومية مؤلمة في الحياة الإقتصادية للأسر العراقية وعموم النشاط الإقتصادي.
إننا نتمنى أن تقوم السلطة النقدية بإعادة النظر في نظام الصرف الأجنبي. و تحديد قيمته التعادلية بالعملات الأجنبية من خلال تبني سياسة إقتصادية متكاملة ذات أهداف محددة ، وبما يؤدي إلى تخفيض معدلات التضخم والإقتراب من حالة التوازن الإقتصادي على المستوى الكلي الذي يعمل على المساهمة في تحسين الإستقرار الإقتصادي الوطني، والمساهمة في معالجة العجز في ميزان المدفوعات.
|