البديع من مسلم المصروع حتى ابن المعتز المخلوع... كريم مرزه الاسدي |
التجديد قي الشعر العربي - العصر العباسي
ما بين مسلم ولطيفه البديع ، وابن المعتز، وتأليفه للبديع 1 - المقدمة : عندما اضمحلت اللغة اليمانية بما فيها من شعر ونثر ، وقامت مقامها اللغة الحجازية بأدابها بعد سيطرة قريش بفصاحتها - ولا أقول سلامة لغتها -على ملتقى تجار العرب وساداتهم وصفوة رجالاتهم ، ولما نزل القرآن الكريم سحَرَهم إعجازه ، وعذوبة ألفاظه ، وما أن طلّ العصر الأموي حتى تعصبوا لأحزابه ، وأصبح الشعراء لسان أحواله ، وتقدم العصر العباسي بعد الفتوحات يهلهل بأعجامه من فرس وأهل هند وسند وأحباش وروم وأغريق وصقالبة ، ويغنّي بجواريه وقيناته , وتـُترجم له اللغات الأجنبية ، لسان أعرق الأقوام السابقة ،لإثرائه بالفلسفة والطب والحكمة والحكايات والعلوم والفنون ، عقبى هذا الأختلاط ، تفنن الشعراء بأساليبهم ومعانيهم وصورهم وإيحاءاتهم , وحاولوا زخرفة كلامهم - كعصرهم المزخرف - ذاتياً دون الاعتماد على منهجية الشعوب الأخرى بادئاً ، وإنما أفكار لشتات ، وأساليب لحياة وحياة ، أقول زخرفة العارف بعمق المعاني ، وجذور الإبداع اللغوي العربي سلامة وفصاحة ، وممن أبدع بالمجال الأخير حتى بدايات العصر العباسي الثاني ، بشار بن برد ، وابراهيم بن هرثمة ، وكلثوم بن عمرو العتابي ، ، ومسلم بن الوليد ، وأبي نؤاس ، وأبي العتاهية ،ودعبل الخزاعي ، و أبي تمام ، والبحتري ،وابن الرومي ، وابن المعتز . وكما ذكرنا في الحلقة الأولى بشار الرائد الأول ، وسلـّم الراية للمسلم الصريع ،وأبي نؤاس الخليع . 2 - مسلم الصريع بين الفاخوري والمأمون : و هذا المسلم هو مسلم بن الوليد الأنصاري (130 هـ - 208 هـ / 747 م - 823 م) ، ولد في الكوفة وتوفي في جرجان ، يقول عنه فاخوري في (تاريخ أدبه) :" كان كثير الأفتقار إلى المعاني ، ومع ذلك ، صائغاً ماهراً للكلام ، وصانع ألفاظ بالغا في اللباقة ، فهو يفهم الشعر على أنه صياغة جميلة ، وصقل متق براق ، فيبطئ في النظم ، ويتوفر على زخرفته " (87) ، لا أميل إلى ما يقول عن افتقار المعانى، يحتاج الرجل الصريع إلى دراسة معمقة متأملة ، وإنْ كان يكثر من الاستعارات والمحسنات البديعية حتى أصبحت السمة الظاهرة على شعره ، لذلك أعتبره المؤسس الرسمي لـ (علم البديع) ، نشرع من أواخر حياته ، بهذا الخبر الذي يرويه الأصفهاني في (أغانيه) : " أخبرني جعفر بن قدامة قال: قال لي محمد بن عبد الله بن مسلم: حدثني أبي، قال: اجتمع أصحاب المأمون عنده يوماً، فأفاضوا في ذكر الشعر والشعراء، فقال له بعضهم: أين أنت يا أمير المؤمنين عن مسلم بن الوليد؟ قال حيث يقول ماذا ؟ قال حيث يقول وقد رثى رجلاً : أرادوا ليُخْفوا قبرَه عن عَدُوِّه *** فَطِيبُ تُرابِ القبر دلّ عَلَى القَبْرِ كما ترى لا يخلو بيت من بديعه ، من جناس ، أو تكرار ، أو طباق ، التكلف أوالتصنع اللفظي والمعنوي واضحان ، لا يحتاجان إلى نباهة ، ولكن هل أخل هذا البديع المتكلف من المعاني الرفيعة السامية ، التي هزّت مجلس الخليفة المأمون الأديب البارع ، ولم يتمالك نفسه حتى قال : " هذا أشعر مَن خضتم اليوم في شعره " !! 3 - الدكتور طه حسين وأصالة بديع ابن المعتز : ونشرع بهذه الفقرة لتثبيت أصالته العربية دون التباس لاقتباس ، أو نحل ، أو نسخ ،أو سلخ ، أو سرقة ، أو تناص ، أو تلاص ...!! ، لأنَّ الدكتور طه حسين (1889 م - 1973 م) الذي نفى الشعر الجاهلي من قبل، متأثراً بالمدرسة الفرنسية ، وشك ديكارتها ، ثم عدل عن رأيه ، عاد ليقول في مقالة باللغة الفرنسية قبل نيف وثمانين عاماً : إن كتاب (البديع ) المعتزي العربي العريق به أثر بيّن للقسم الأول من الفصل الثالث لكتاب (خطابة) أرسطو الهيلينية ، فيما يخصّ بحثه في العبارة (89) ، ومن سخرية الأقدار أن ابن المعتز استشهد بأشعار شعراء العرب الذين تقدموه ، وغلبهم أبو تمام إلى ذهنه وعقله ، ولم ينسَ البحتري ودعبلاً ، ولكنه ضرب معاصره (ابن الرومي) الذي يكبره ربع قرن من الزمان عرض الحائط ، ولم يذكره حتى ببيت واحد ! وعلى أغلب ظني المطلق ! لا لروميته ، بل لأن الأخير هجا أباه المعتز بالله ، حين عذبه الأتراك لخلع خلافته (255 هـ) ، بقوله : دع الخلافة يا معتز من كثـب *** فلـيس يكسوك منها الله ما سلـبا 4 - لقب (البديع) ليس مستحدثاً في عصر ابن المعتز :
لقب البديع ليس لقبًا مستحدثًا في عهد ابن المعتز - كما ذكرنا - ولكنه اسم لهذه الألوان الساحرة في الأسلوب، ولهذا الترف البياني في الأداة، من تشبيه واستعارة وتجنيس وتطبيق وسوى ذلك، سماه به مسلم بن الوليد ، وكان يُعرف قبل ذلك بـ (اللطيف) (96) ، ودرج على هذا اللقب من بعده من العلماء والأدباء ، هذا من حيث المصطلح البلاغي ، أمّا من الناحية اللغوية ، فأحيلك إلى (لسان) ابن منظور، فنقتطف ما يلائم موضوعنا راوياً : المبتدع الذي يأتي أمرا على شبه لم يكن ابتدأه إياه . وفلان بدع في هذا الأمر أي أول لم يسبقه أحد . ويقال : ما هو مني ببدع وبديع ، قال الأحوص : إن كنت لله التقي الأطوعا *** فليس وجه الحق أن تبدعا وبدعه : نسبه إلى البدعة . واستبدعه : عده بديعا . والبديع : المحدث العجيب . والبديع : المبدع . وأبدعت الشيء : اخترعته لا على مثال . والبديع : من أسماء الله - تعالى - لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها وهو البديع الأول قبل كل شيء (97) والبديع من أسماء الله ، وقد ورد مرتين في القرآن الكريم بتمام لفظه : " بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأْرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " ( البقرة 117) ، وقوله تعالى : " بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأْرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " (الأنعام 101) . ونستشهد لك بشاعرين آخرين من العصر الأموي ، بما ضمنا من البديع لغة ، قال عمر بن أبى ربيعة : فأتتها فأخبرتها بعذرى *** ثم قالت أتيت أمراً بديعاً وقال الفرزدق : تأثر بمسلم شعراء عصره كدعبل وأبي نؤاس ، ثم خفّفا من المبالغة، والإغراق في محيطه الناشز ، وذهب أبو نؤاس حتى السخرمن صاحبه الصريع المبدع لـ ( بديعه) ، ينقل الدكتور جميل سلطان في كتابه عن (المسلم الصريع) :" اجتمع أبو نؤاس ومسلم في مجلس فتلاحيا على نبيذ، فقال مسلم لأبي نؤاس : والله ما تحسن الأوصاف ، فقال أبو نؤاس : والله ما أحسن أن أقول : سُلـَّتْ فسُلـَّتْ ثمّ سُلّ سليلـُها *** قأتى سليل سليلها مسلولا والله لو رجمتَ الناس في الطريق لكان أحسن من هذا " (98) ، ولو أنّ الجلسة جلسة مزاح ، والشاعرين صديقان ،ولكن الحق مع أبي نؤاس ظاهرياً من حيث تكلف وتصنع المسلم حتى الخروج التام عن الإلهام ،، فبيت مسلم المذكور ، قاله عن الخمر ، فجاء متكلفاً من السلسلة حتى السماجة ، يذكرالثعالبي في (خاصه الخاص) ، والواحدي يروي في ( شرحه لديوان المتنبي ) بعد الغربلة ما يلي : سمعت الشيخ أبا منصور الثعالبي رحمه الله يقول: قال لي أبو نصر بن المرزبان: ثلاثة من رؤساء الشعراء شلشل أحدهم ،وسلسلَ الثاني ،وقلقلَ الثالث ،أما الذي شلشل فالأعشى وهو من رؤساء شعراء الجاهلية قال : وقد غدوت إلى الحانوت يتبُعني *** شاوٍ مشلٌّ شلول شلشلٌ شولُ وأما الذي سلسل فمسلم بن الوليد وهو من رؤساء المحدثين وهو الذي قال : سلَّت وسلت ثم سلَّ سليلُها *** فأتى سليلُ سليلها مسلولا وأما الذي قلقل فهو المتنبي وهو من رؤساء العصريين وهو الذي يقول : فقلقلتُ بالهمّ الَّذي قلقلَ الحشا *** قلاقلَ عيسٍ كلُّهـنّ قلاقـلُ فبلبلْ أنت أيضا ، فقلت بعد حينٍ من الدهر : وإذا البلابل أفصحت بلغاتها*** فانفِ البلابلَ باحتساءِ بلابل (99) هذا تلاعب بالألفاظ ، يحسّ فيها القارئ ضحكاً على العقول والذقون ، يستصغرها ، ويعتبرها هفوات نادرة من الشعراء ، ويمشي قارئاً ، وقائلاً : إنـّا له وإنـّا إليه راجعون ! ولكن من وجهة نظري ، يمكن أن نجد العذر لمسلم من جهتين ، الأولى السلسلة أخف ثقلاً على الآذان من الشلشلة والقلقلة ، وأسلس منهما ، دعنا عن البلبلة جاءت تماشياً ، لربطها بما سبق ، والثانية قد يكون مسلم ذهب إلى السلسلة ليضع حجر الأساس للبديع الإيقاعي ، ولم يفصح به لأبي النؤاس ليتسنم حلبة السبق ، ويُعرف عن المسلم الصريع الهدوء ، وقلة البوح ، والكلام سيأتي عن البديع الإيقاعي . 6 - الجواهري والصريع والله أعلم ! : وكلامنا عن ابن وليدنا المذكور - والحق يقال - لديه ثروة لغويه ، يحسده عليها الكبار ، فلا تجد في شعره كلمة نابية ، ولا نافرة من أختها المرافقة لها حتى في قوافيه الجارية كالماء الزلال ، ولم يزلزلها المجرى الضنك في وعر الجبال !! ، ونستطرد معك ، ولك أن تحسبه ما تشاء ، إشارة إلى جديد ، أو دفع الملل الرتيب ، أو إبراز لذات الكاتب العنيد !! تعجبني أبيات هذا المسلم الصريع في جارية كانت على رأس الفضل بن جعفر البرمكي حين ناغاها مغازلة من البسيط النوني : إن كنت تسقين غير الراح فاسقيني *** كأساً ألذ ّ بها من فيك تشفيني وعلى ما يخيل لي ، عندما شرع الجواهري بنظم قصيدته بحق حبيبته (دجلة الخير) في براغ ، شعّ في ذهنه خيال بغداد العباسية ، فناجى دجلته على غرار الصريع ، فأنَّ ونوّن حادياً : حيّيتُ سفحك عن بعدٍ فحيّني *** يا دجلة الخير يا أمَّ البساتين لذلك دعوت مقدماً بضرورة دراسة شعره بتأمل وتعمق ، على كلّ حال ، البحتري وابن المعتز من بعد (المسلم) بجيل وجيلين سارا على نهجه إلى حد ما ، ثم عدل الأول عنه إلى طبع جبلته الشاعرية الأصيلة ، أما الثاني فمال إلى ما يوافق عصره وبيئه الأجتماعية والأدبية في زخرفته اللفظية ، وتحدثنا عنه بإسهاب بالنسبة لمتطلبات بحثنا ، بقى لدينا معاصره الصغير عمراً ، والكبير شاعرية وشأناً ، أبو تمام - ستأتي حلقة الكلام عن تجديده ، وتجديد أبي نؤاس - ، فلما انتشر فن البديع في ذلك العصر ، واشتدّ الصراع بين خصومه وأنصاره ، بالغ الطائي أبو تمام في أمر هذا البديع وروّاده ، فينقل لنا أبو بكر الصولي في (أخباره) : " أن أحمد بن طاهر دخل على ابي تمام وهو يعمل شعرا وبين يديه شعرا لابي نواس ومسلم بن الوليد، فقال ماهذا ؟ قال : الـلات والعزى وأنا أعبدهم من دون الله مذ ثلاثون سنة " (100) هذا التعلق التمامي - والعياذ بالله - بالبديع المتنامي في عصره المترامي دافع عنه الصولي دفاع المتيم الولهان . 7 - مسلم بين النقد البناء والموهبة والذكاء : البديع ليس بجناسه وطباقه وتوريته ومقابلته ، يطوّعه الشاعر كيفما شاء للتماهي ، والتلاعب بالألفاظ لإبراز الذات ، ومقدرته اللغوية ، ولا كما قال الجواهري " وخلّها حرّة تأتي بما تلدُ " تماماً ، بمعنى الشعر بمعانيه وصوره وتشكيله ، للذات الشاعرة الملهمة النصيب الأكبر ، وللعقل الذكي النبه إتمام الآخر ، دون تعرج ملفت ، ولا نشاز مُفتـِّت ، لنرى ما ذهب إليه النقاد قديماً ، يقول قدامة بن جعفر عنه : " وأكثر الشعراء المصيبين من القدماء والمحدثين قد غزوا هذا المغزى ورموا هذا المرمى، وإنما يحسن إذا اتفق له في البيت موضع يليق به، فإنه ليس في كل موضع يحسن، ولا على كل حال يصلح، ولا هو أيضاً إذا تواتر واتصل في الأبيات كلها بمحمود، فإن ذلك إذا كان، دل على تعمل وأبان عن تكلف ..." (101) ، والآمدي في (موازنته) بين الطائيين - أبي تمام وتلميذه البحتري - فصل الأمر ، بادئاً بمسلم ، وأطال مع أبي تمام راوياً : ...أن أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد، وأن أبا تمام تبعه فسلك في البديع مذهبه فتحير فيه،كأنهم يريدون إسرافه في طلب الطباق والتجنيس والاستعارات، وإسرافه في التماس هذه الأبواب وتوشيح شعره بها، حتى صار كثيرٌ مما أتى به من المعاني لا يعرف ولا يعلم غرضه فيها إلا مع الكد والفكر وطول التأمل، ومنه ما لا يعرف معناه إلا بالظن والحدس، ولو كان أخذ عفو هذه الأشياء ولم يوغل فيها، ولم يجاذب الألفاظ والمعاني مجاذبة ويقتسرها مكارهة، وتناول ما يسمح به خاطره وهو بجمامه غير متعب ولا مكدود.... لظننته كان يتقدم عند أهل العلم بالشعر أكثر الشعراء المتأخرين، وكان قليله حينئذٍ يقوم مقام كثير غيره؛ لما فيه من لطيف المعاني ومستغرب الألفاظ..." (102) . والحقيقة مسلم لم يترك الحبل يجري على غواربه ، ولا الكلام يطلق على عواهنه في (لطيفه) الذي أوسمه بـ (البديع) ، بل عند لحظات الإبداع الشعري ، يجعل عقله يتحكم بدقة متناهية مع مسيرة شعره الإلهامية ، وتساعده في ذلك حافظته اللغوية الثرّة والماهرة ، تأثر ببلاغة القرآن الكريم ، وألطف في قوله ، لكي ينزل برداً وسلاماً على مسامع المتلهفين ،وتأثر به أبو تمام الطائي، لذلك يذهب أبن قتيبة الدنيوري في (شعره وشعرائه) بقوله : " وكان يلقب " صريع الغواني " لقوله في قصيدةٍ له : هَلِ العَيْشُ إِلاَّ أَنْ تَرُوحَ مَعَ الصِّبَا *** وتَغْدُو صَرِيعَ الكأْسِ والأَعْيُنِ النُّجْلِ هذه الخلاصة تستطيع أن تقنعنا بمضمونها ، ودقة تتبعها ، فالرجل سلك منهج المحسنات البديعية على المستويين الإيقاعي واللغوي المجازي ، ومن هذا المجاز الاستعارة التي كانت تحسب على البديع لا البيان الذي ضمها من بعد . 8 - ملامح عابرة من بديعه : وعلينا بالمسلم ، فمن بديعه القديم ،الاستطراد - والآن هوأيضاً من أنواع علم البديع ،الذي هو فرع من علم البلاغة المتضمن علوم البيان والمعاني والبديع، والأستطراد : هو خروج المرسل أو المتكلم عن الموضوع الذي هو فيه إلى غرض آخر لسبب ما ، ثم يرجع لإتمام الكلام الأول ، قال العسكريّ : " وهو أن يأخذ المتكلّم في معنى، فبينا يمرُّ فيه يأخذ في معنى آخر، وقد جعل الأوّل سببًا إليه." (105)، وقال القزويني : " وهو الانتقال من معنى إلى آخر متّصل به، لم يقصد بذكر الأوّل التوصلُ إلى ذكر الثاني ...وقد يكون الثاني هو المقصود، فيذكر الأوّل قبله ليتوصّل إليه " (106) ، وإليك استطراد مسلم بن الوليد ، وخروجه من الغزل إلى مدح يحيى بن جعفر : أَجِدَّكِ ما تدرين أن ربّ ليلةٍ *** كأنّ دجاها من قرونك تُنْشرُ لهوت بها حتّى تجلّت بغُرَّة *** كغُرّة يحيى حيــــن يُذكر جعفرُ ولا ريب أنّ الاستطراد كان معروفاً منذ العصر الجاهلي ، فورد في شعر السموأل وزهير ، وفي صدر الإسلام جاء على لسان كعب , وغيرهم من الشعراء ، ولكن الصريع أكثر منه وقصده بمهارة فنية ، ملفته في حسن التخلص من غرض إلى آخر ، بمعنى نقل الاستطراد من العفوية الجزلة إلى الصنعة السلسة ، وإليك : إذا شئتما أن تسقياني مدامةً ***** فلا تقتلاها، كــــل ميتٍ محرمُ خلطنا دماً من كرمةٍ بدمائنا ***** فأثر فــــي الألوان منا الدم الدمُ ويقظى ثنيت النوم فيها بسكرةٍ ** لصهباء صرعاها من السكر نُوّمُ فمن لامني في اللهو أو لام في الندى**أبا حسنٍ زيد الندى فهو ألومُ دقق في البيت الأول كيف استعار القتل للمزاج ، والدم للكرمة، وأردفه بالدم الحقيقي ، فتولد الجناس التام ، ولا يفوت القارئ الكريم الجناس في البيت الثالث ، حتى ختم البيت الرابع بالاستطراد ، والانتقال من وصف الخمرة إلى المدح ، وإن كان لا تُخفى عليك خافية ، تستطيع من مفردات صدر البيت الأخير أن تكرر مع الشاعر قافيته ( ألومُ) ، وهذا هو (الإرصاد) الذي سماه علي بن هارون المنجم (تسهيمًا) ، وسماه ابن وكيع (المطمع ) . ما كانت هذه الصنعة اللفظية ، والبديعية ، وإن شئت البلاغية في العصور التي سبقت المسلم الصريع ، ونستأنس برأي ابن وكيع التنيسي في (سارقة ومسروقه) حول أبيات المسلم ، إذ يستحسن تحليل مسلم على ما جاء به المتنبي بعده بقوله : وقال المتنبي : ومما أعجب النقاد القدماء دقة تعبير البيتين التاليين في تضمين المعنى الرائع ، المتعارف عليه في عصره : وإني وإسماعيل بعد فراقهٍ *****لكالغمدِ يوم الروع زايلهُ النصلُ فإن أغْشَ قوماً بعدهُ أو ازرهمُ**فكالوحشِ يدنيها من الأنسِ المحلُ ولشدة إعجاب ابن المعتز بهما ، قال في (طبقات شعرائه) : " معنى لا يتفق للشاعر مثله في ألف سنة " (108) وبعد أنْ جاء بشار بالبحور القصيرة الراقصة ، وجد مسلم فيها فسحة للولوج إلى إبدعات مشابهة لها ، أو مدخلاً لتوليد تقسيمات مسجعة راقصة من البحور الطويلة ، معتمداً على محسنات بديعية كالترصيع : كأنه قمرٌ أو ضيغمٌ عصر*** أو حيّةٌ ذكر أو عارضٌ هطلُ وقد أخذ المتنبي هذا المعنى ، والأسلوب ، فقال : يا بدر يا بحر يا غمامة يا *** ليث الثرى يا حمام يا رجل (109) وقال مسلم مرصعاً : وسار أبو تمام على هذا النهج من التصنيع البديعي ، وأجاد قائلاً : فذلكة الأقوال : مسلم بن الوليد جدّد المحسنات البديعية مجازاً وإيقاعاً يدقة متناهية ، لا يجعلك تشعر بصناعته للطفه ، ونباهته ، وكان أكثر سعياً وجدّاً من أستاذه بشار ، وأطلق البديع على اللطيف ، وسلم الراية لأبي تمام الذي كان تلميذاً نجيباً ماهراً، نسدل الستار على مسلم ، ويكفي هذا المغنم ، والسلام .
|