كنت في مدينة (كيوتو) اليابانية , مع صديقي الياباني , وقد تجولنا في أسواقها وشوارعها , وزرنا معابدها. وهذه المدينة عريقة وذات تأريخ طويل , وكانت عاصمة اليابان قبل طوكيو لأكثر من ألف عام , وقد أسسها الإمبراطور (كامو). ومن معابدها ( غينكا كو-جي) و (كينكاكو –جي) , ومعابد أخرى تتجاوز الألف ومئتي معبد على حد ذكر صديقي. وزرت العديد منها , في مدينة يبلغ تعداد نفوسها المليون والنصف تقريبا , وكل معبد يعبّر عن مذهب , وتوجه ورؤية وتصور يختلف عن الآخر , ما بين البوذية بأنواع مدارسها والشانتوية ومدارسها , وديانات ما أنزل الله بها من سلطان , لكنها ذات معابد وأتباع ومعتنقين. وتجد في المدينة لكل ما يخطر على بالك وما لا يخطر معبدا , فتتعجب من الأمر , وتحتار. فسألت صديقي الياباني: ما أكثر المعابد عندكم؟ قال: إنها جزء من الثقافة قلت: وماذا تقصد قال: نذهب إليها , ونغادرها ونحن يابانيون! قلت: ألا تتحسسون من بعضكم؟ ضحك وقال: كيف يجوز ذلك , فهذا غير ممكن , وإن تفعل المعابد ذلك سنتخلص منها! قلت: كيف قال: نحن يابانيون , وهذه جزء من التراث والثقافة , نعتز بها ونمارسها , لكن القيمة الوطنية , والهوية اليابانية , فوقها بكثير. قلت: أكثر من ألف ومئتي معبد في هذه المدينة قال: نعم قلت: ولا تتقاتلون قال: إنك غريب! قلت: لا أنا جاد في سؤالي قال: أنت محيّر وتضحكني أسئلتك! قلت: إكتشفت بأننا مُضحكة! قال: ماذا تقصد قلت: عندنا بضعة مذاهب ونتقاتل فيما بيننا كالوحوش في الغاب قال: لماذا قلت: لأننا نختلف في المذاهب قال: ولماذا قلت: ألا تفهم قال: لا قلت: إننا مضحكة يا عزيزي , عندكم أكثر من ألف مذهب ومدرسة ومعتقد , ولا تتقاتلون , وعندنا دين واحد, وفي داخله نتقاتل , ولا ندري لماذا! قال: لا أفهم ما تقول! قلت: دعنا من ذلك , ولنمضي إلى معالم المدينة الأخرى. قال: وأين تريدني أن أأخذك؟ قلت:كيدرو نشيدا قال: تعني طريق الفلاسفة؟ قلت: نعم وذهبنا إلى الدرب الذي كان بسير فيه هذا الفيلسوف كل صباح , قبل أن يدخل غرفة المحاضرات , ويتحدث عن فكرة جديدة إستلهمها , وهو يخطو باحثا عن فكرة تصنع الحياة اليابانية الأقوى. قلت لصديقي: دعني أسير متأملا , لأرى كيف تتوارد الأفكار قال: إنه الفيلسوف نشيدا...., لا يمكنك أن تكون مثله قلت: دعني أمشي لوحدي ومضيت في الطريق أبحث عن الأفكار التي إستنهضت اليابان من تحت رماد الحروب , وأوجدت اليابان المعاصرة المبدعة المبتكرة المفكرة المتماسكة المتفاعلة المنسبكة. وبعد أن قطعت الطريق ذهابا وإيابا , قلت لصديقي: هيا لنذهب إلى قاعة المحاضرات. ووسط دهشته وابتسامته وحيرته , ذهبا إلى جامعة كيوتو , ودخلت قاعة المحاضرات التي كان الفيلسوف نشيدا يلقي فيها محاضراته , ويبث أفكاره ورؤاه وتحليلاته وفهمه لآليات الصيرورة والإرتقاء. وجلست متأملا , ومتسائلا عن كيفيات إعمال عقولنا وصناعة حياتنا , وفقا لرؤية معاصرة مقتدرة متفاعلة مع أبعاد زمننا وأطياف رؤيتنا , وغرقت في تفكير عميق , لكن صديقي , أيقظني من إنقطاعي وغيابي , وهو يقول: إن أمرك لعجيب! فقلت: كل ما فينا عجيب , ولهذا أصبح الواحدد منا في دياره غريب! قال صديقي: هيا لنلحق بالقطار السريع وما هي إلا بضعة دقائق , وإذا بي في قطار الإطلاقة الذي يسابق الزمن , ويلتهم اللحظات بشراهة غير معهودة. فقلت لنفسي , وقد إنشغل صديقي بهاتفه: هذا مجتمع يخترق الزمان والمكان , ونحن مجتمعات تستنقع وتتعفن في مكانها , وتتراجع القهقري , فكيف سيتحرك في أرضها مثل هذا القطار؟! وغرقت في دهشة الإنطلاق من مكان لمكان! فهل سنمتلك قليلا من إرادة اليابان؟!!
|