عام 2006 يتجدد والحماقة تكبر

 

في أثناء القتل الطائفي عام 2006 حدث التالي : جماعة (سين) تتظاهر بأنها من جماعة (شين) لكي تقتل وهي مستمتعة بدور مسرحي. تقبض على خصمها بحيلة أنها ليست هي، وهذه متعة. وبالمقابل كانت جماعة (شين) تتظاهر بأنها من جماعة (سين) لكي تحظى بنفس المتعة الغريبة. الحفل التنكري ييسر للمتنكرين حرية زائدة، فبوساطته يمارسون أدوارا سياسية وتنفيذية، موحدين بين عمل المحقق المطمئن على افعاله، والقاضي المكلف بمهمة ربانية، والجلاد التقني.

في تلك الفترة العصيبة جرى عمدا خلط هويات القتلة لكي نحتار ما بين اليشماغ الاحمر والقناع الاسود، ولكي تجري المباراة بينهما سجالا. كان إخفاء الوجه والهوية يشير الى أن القتلة يمارسون دورا سياسيا، يقع عند النهايات ، عند توقف شخير المنحورين، عند مكاتب سياسية تحصي النتائج، عندما يقرر القائد الميداني وصاحب الفتوى أن الجولة الدموية بحاجة الى تقييم . إنهم ينشؤون نوعا من الحوار بين ادوات القتل والزمن ، ويولدون حقلا خاصا بالفعل وردود الفعل والتوقع واثارة الهلع.

كان اخفاء اللهجة والنبرة يجري مرة بشكل متقن، ومرة يفضح نفسه، والضحية المسكين يراهن على طبيعة الجلاد وانتمائه المذهبي ، فيغطي ويكذب ويحلف وينافق ويتوسل ويقرأ آيات وأدعية معينة. لكن من خلال خطأ باللهجة ، بالحلفان، باستدعاء نبي أو إمام أو خليفة، بجواب خاطئ عن سؤال مخاتل، بتقديم معلومات خاطئة وصحيحة، يفشل، والمطلوب أن يفشل، ثم لا يدعونه يصلي ما داموا حكموا عليه بالكفر، لا يدعونه أن يكون مسلما، ولا يدعونه يردّ دينا - وروحه أصلا هي وديعة - حتى ولا صلاة ، ولا تمتمة اخيرة ، ولا بسملة ، إذ يُخشى من أن ينال الضحية هوية مسلم وهو في طريقه الى ملاقاة ربه.

في تلك الأيام سادت نكتة سوداء ملخصها أن الضحية التي تقرر اعدامها يصيح: لكنني منكم!

فيجيبه الجلاد : لكننا منهم!

على عكس تقاليد ذبح الاضاحي والدجاج لم يكن ذبح البشر بحاجة الى التوجه الى القبلة ولا الى تكبيرة (بسم الله الله اكبر). ازاء ذلك كان اعدام ما يعتقد أنه خائن الطائفة لا يحتاج الى تقنية استجوابية غير التعذيب الحاقد وتحويل صراخ الضحية الى متعة. إنهم هم المعادون للحزبية في الظاهر أنشؤوا أحزابا لا تقبض على أرواح المسلمين فقط ، بل وتمسك لهم دفاتر الغياب والحضور، وتقف على أبواب الجنة والنار وتحكم قبل استجوابات الملكان الصالحان منكر ونكير. لقد أقاموا محاكمات تتصف بمكتبية حزبية لعينة لها سمات تنظيم حاذق. لقد كانوا معبأين بفكرة أنهم ينفذون ارادة الله ، منظمين بتراتبية الاحزاب السرية ، لهم اسماء تاريخية مندمجة بسرايا وتنظيمات ولدت قبل فتح مكة. ودائما يتجدد الفتح ، لأن المسلمين المعاصرين كفرة يجب ان يعمل السيف برقابهم.

هذا الجنون ساد في 2006 ، وقد استطعنا أن نتعرف على ضحايا نجوا بالمصادفة أو بالنجاح بالامتحان، وعرفنا منهم تقنيات التعذيب وطرق التعرف على مذاهب الضحايا الحقيقية، والمسرحيات التي يقوم بها الجلادون لهذا الهدف. علمنا مثلا أنهم قاموا بجرودات في المناطق حسب الطوائف. أن يُمسك الناس بلا اتفاق وارد، لكن هذا يتم في شروط معينة، أما حسب الجرود فالامر يتعلق بتقارير استخبارية تحظى بالمصداقية تقلل فيها امكانية حصول أخطاء ، لكن في مجتمع فلاحي عشائري يحب الفتن والتدليس والانتقام كانت الاخطاء تتكاثر. أطلعني صديق كان يعيش في منطقة ساخنة على ورقة مطبوعة الكترونيا تعتذر فيها (القاعدة) منه عن اعدام ابنه بسبب معلومات كاذبة: عمل مكتبي يقوي المصداقية السياسية ويرفعه الى مستوى العمل الحكومي . حدث هذا في مكان ممسوك ومسيطر عليه، أما في اماكن غير مؤمّنة فالقتل يتم على الماشي. تصفية كلاب ، اصطياد جرذان ، تنفيذ وصية عاجلة بتسلية حاقدة.

بات من الصعب معرفة القتلة. باتوا واحدا، تآخوا، توحدوا بالمرعب والدنيء وغير المفهوم . هم الطائفيون حتى العظم تشابهوا حتى العظم . عقائديون سحبوا الماضي الى الحاضر.

أتحدث عن 2006، لكن هناك دمامل تعود لها التصقت بجلد الحياة العراقية، وتلوثت بأوساخ السلطة والسياسيين الفاسدين، فراح التفاعل السياسي في العراق ينتج معسكرات متضادة واشكال من الحروب الطائفية الخفية والعلنية. هذه الوضعية بدأت مع الاحتلال 2003 ، وهي من الصناعة المباشرة لها ، بيد أنها توسعت مع توسع دائرة الصراع لتشمل الهلال الخصيب كله بعد (الربيع الاسلامي) والمستنقع السوري المصاحب له . من الان قد ترتدي حفلة التنكر الطائفية اردية تاريخية بوضوح اكثر، مستندة الى ماض متخاصم عليه طائفيا . ان المتنكرين يميلون اليوم الى الاسفار عن وجوههم، فقد تحقق انفتاح معركة بالمعنى العسكري في ربوع سوريا، وصداه يجري في لبنان، والسياسة الايرانية مكيفة له اكثر من غيرها، فهي تمثل لقاء الطائفة – القومية – الدولة في وحدة مركزية، كما أنها الوحيدة التي تمتلك مشروعا مقابل مجتمعات مفككة عشائريا وطائفيا واثنيا تنتشر على مسطحات الهلال الخصيب الخائبة.

في حروب الطوائف تتوقف السياسة عن العمل لكن لا تتوقف الروابط الواقعية الخاصة بعلاقات القوى. الهدنة والعمل السياسي السلمي منوطة بنتائج الحرب (الحرب امتداد للسياسة بوسائل اخرى – كلاوتزفيتز).

تى في السلم سيجد الارهابيون والمليشياويون تبريرا ليس بالحاجات العملية بل بوجود سوابق تاريخية قام بها الاسلام الاول ، فكأن الحرب وتوقفها عن طريق هدنة ما تتبع نموذجا تاريخيا ، متقنعة بأردية الماضي .

إننا نشهد اليوم فاصلا معقدا لأسلمة المجتمعات بالقوة، وتغطيتها بالتذكارات والثارات القديمة، والقيام بسحب التاريخ الى الحاضر في معركة يراد لها ان تكون حاسمة. إن دولنا الوطنية ستتمزق اربا ملتحقة بمجتمعات ممزقة ضعيفة مخذولة يجري الهيمنة عليها من قبل الاقوياء. لم يمتلك الاسلام السياسي في يوم من الايام نزعة وطنية . دققوا ببرامج احزابها وجماعاتها وسترون ان مبتغاها السلطة والهيمنة من اجل اقامة الخلافة او الدولة الدينية. الوطن السياسي يجب ان يلتحق بدولة اسلامية التي لما تزل مشروعا بعد. ولسوف يدمر الوطن السياسي من دون تحقيق اي هدف حقيقي.

إن ملاحظات الزميل سرمد الطائي عن سايكس بيكو جديدة واردة. هناك سياسيون وكتاب اسرائيليون يتوقعون هذا. لنتذكر أن دولنا هي كيانات سياسية ولدت قبل مئة عام على يد الدول الكبرى ، وما يجري اليوم هو اختبارات لتحطيمها. حتى لو لم تكن هناك مثل هذه الاختبارات بالمعنى الاستعماري التآمري فإن قيام ابناء البلد بتحطيم بلدانهم الهشة الضعيفة بحرب طائفية قذرة يجعل تفككها حتميا.

ان العراق وسوريا ولبنان والأجزاء العربية المتاخمة هي ساحة حرب، وقود رخيص يشتعل. قوتان ستنجوان من هذا المصير، برغم من أنهما اسهما في جعله ممكنا : اسرائيل وايران.

يخطئ شيعة العراق وسنته إذا ما اعتقدوا انه سيكون لديهم دور غير ان يكونوا وقودا وعبيدا ، فموطنهم ساحة قتل لن ينتصر فيها أحد . ليتدبروا امرهم إذن ، ويتمسكوا بثوابت العيش المشترك وابعاد الطائفيين والارهابيين والمباشرة معا في بناء دولة ديمقراطية قوية. من لا يصغي للحقيقة ستلهب ظهره عصا الاجنبي.. وسيكون الاوان قد فات على من اعتاد ان يكون عبدا وخائنا!