العراق وطن كبير بتأريخه وأرضه وسمائه وما فيه وما عليه. ومصيبته أنه لم تتولاه قيادة بحجمه وقدرته وجوهر ذاته. فالعقد السابق لم يُنجب مَن يُبصرالعراق , وإنما إزدحمت البلاد بالذين انغلقوا في الكرسي والفئة والمجموعة , وغيرها من التصاغرات المنكرة وطنيا وديمقراطيا وحضاريا. وكان من الممكن أن يكون شخص واحد قائدا تأريخيا , ومؤسسا وملهما وأبا وطنيا وإنسانيا عبر الأجيال, لكنه تنازل عن هذا الدور الخلاق , وإنكمش في حالة أخرى ترتبط بجوهر إنتمائه وأصله. ومعضلة العراق الأساسية , أنه لم يلد قائدا , حزبا , أو رؤية وطنية تستوعبه وتدركه وتعبّر عنه , وترتقي إلى حجمه ودوره الإنساني. فعلى مرّ العقود , ومنذ تأسيس دولته الحديثة , وحتى اليوم , جميع القوى التي تسنمت زمام الأمور , قد تخندقت في صناديق إنقراضية وإتلافية مريرة , أخذتها إلى نهايات مأساوية أليمة ودامية. فكانت الرؤية في النظام الملكي , تفتقد إلى آليات صناعة الوجود الوطني المتفاعل , وفي العهود الجمهورية , كانت الرؤية عسكرية بحتة , ومرتبطة بنزعات وتصورات فردية وتسلطية دامية, حتى إنتهت جميعها إلى ما صارت إليه من ويلات الختام. وبتوالي التداعيات السياسية , بما تمخض عنها من صراعات وتمزقات ونزاعات , معززة بآليات الدوران في دوائر مفرغة , تم رمي المجتمع في طواحين الإتلاف الحضاري المتواصل , والذي أصبحنا نعاني منه , ونحن نرفع أسمى الرؤى الإنسانية والحضارية , وننادي بالديمقراطية , ونأتي بنقيضها وعدوها في سلوكنا وتفاعلاتنا اليومية القاهرة. هذا واقعنا السياسي والإجتماعي الذي ننسحق فيه جميعنا وبلا إستثناء , وذلك لأننا نغفل جوهر صناعة الوجود الوطني الصالح للناس أجمعين. كما أننا لا نتعلم من تجاربنا أبدا , ولا نحلل أخطاءنا وندرس الحلول اللازمة لتفادي تكرار المآسي , والحفاظ على الوطن والشعب , بل نستلطف الدوران في ذات الحلقة المفرغة من التداعيات ونكرر ما كان , ولا نعرف كيف نفكر بالآتي ونضع الخطط اللازمة لصناعة مستقبل مفيد. فعلى مدى عقد مضى ونحن نكرر ذات العبارات والمسميات والمفردات , ونقترب من الحالة بذات العقلية التي ما عرفت حلا لأبسط المشكلات , وندعي الديمقراطية والحرية والحكم بالقانون , الذي ما عرفناه أو أدركنا فحواه , بقدر ما إحتشدنا حول الكراسي العامرة بالإستحواذ على خيرات البلاد , والمعزولة تماما عن معاناة ومقاساة العباد. إنّ الأوطان لا تبنى بالقيل والقال , وكيل الإتهامات , وربط كل ما يحصل بالذي مضى وما إنقضى. إن الأوطان تبنى بالرؤية الوطية الصادقة الفاضلة الجامعة , وبالقيادة القادرة على التفاعل الوطني الحضاري المعاصر , الذي يكفل الحقوق والواجبات لجميع الناس , بعيدا عن الإندحارات في هذا الصندوق أو ذاك , وبما تستدعيه الفئوية من مسميات. وبما أن القيادة التي ترتقي إلى حجم الوطن غائبة أو مفقودة , فأن الوطن في غيبوبة , أو أنه مفقود ومغيّب عن الوعي والإدراك , وهذا يعني أن آليات التشظي والتناثر والإضمحلال هي التي تتفاعل وتتآزر , لصناعة الوجود الواهن المتصدع , والخالي من قدرات الحفاظ على جميع الهويات. لأن الوجود في هكذا حالة سيتحول إلى مضغة سهلة في أطباق الإلتهام الحضاري الفعّال, وفقا لآليات الإنمحاق والخروج من عالم الحياة , والدخول في أجهزة التقطير الإتلافي, التي تحوّل خامات الشعوب والأوطان إلى عناصرها اللازمة , للإستثمار في بناء القوى الأخرى , وتحرير طاقاتها الضرورية لديمومة هيمنتها وإستئثارها بالحياة. تلك هي محنة العراق , ولكي تتجدد قواه , ويلد ذاته من رحم جوهره , عليه أن يلد مَن هُمْ بحجمه , وكل وطن لا يقوده مَن يملك رؤية متفقة وحقيقته , تدوسه سنابك العصور , ويتحول إلى طحين في طاحونة السحق الغابي المعاصر. ذلك قانون معروف وفاعل في الأرض منذ الأزل , فهل سنرتقي إلى حيث العراق , أم أننا معه على إفتراق , ونسعى إلى التحول إلى رماد , ونحن نؤجج هاوية الإحتراق؟!!
|