أسرار الأمم التي تنتحر |
في هذه اللحظة يعد العراق واحدا من أكثر بلدان العالم فشلا ، فهو ساحة للقتل العشوائي وشلال الدم والفقر والبطالة والفوضى والفساد وضعف سيطرة الدولة ، هذه الظواهر اصبحت عامة وان ازدادت كثافة في بغداد واطرافها ، كان هذا المشهد متوقع سلفا ، لأن كل ظاهرة اجتماعية لها خلفياتها المتفاعلة في عالمي المُلك والمَلَكوت ، فالارواح والارزاق والمصائر بيد الله تعالى ، هو القوة الوحيدة في الوجود ، هو مصدر الوجود وكل ممكن هو فيض منه تعالى ، هو الحاكم و صاحب الأمر والخلق ، وقد وضع بلطفه قوانين ونواميس ، وجعل الانسان مختارا وصاحب قرار ، يصنع مصيره في الدنيا والآخرة ، عبر عقائده وتصوراته واعماله واقواله ، وهذه العناصر تشكل منظومته الاخلاقية ، والأمم تنشأ بالاخلاق لا بعدد السكان ، لذا كان ابراهيم (ع) امة وحده ، والاخلاق تجسيد للاديان ، ويحصد العباد نتائج اعمالهم في الدنيا والآخرة ، فليست الآخرة وحدها دار جزاء بل الدنيا كذلك ، فيها تتجسد اعمال واقوال وافكار الانسان الى معطيات ملموسة ، فالحسن منها ينتج السعادة ، والسيء ينتج التعاسة ، الاديان العظيمة لاقيمة لها الا عندما يؤمن بها الناس ويحولونها الى سلوك عملي ، والفشل ليس في الاديان بل في الانسان العاجز عن استثمارها ، علاقة الانسان بالدين كعلاقة العطشان بالنهر ، فاذا هو عجز عن الاغتراف والشرب مات عطشا على الشاطئ ولا يستطيع أحد ان يلوم النهر ، عبر التأريخ هناك 3 نماذج من الحضارات : 1- الذين آمنوا وعملوا الصالحات فبلغوا سعادة الدارين . 2- الذين لا دين لهم لكنهم عملوا الصالحات بالفطرة ونظام القوانين فحققوا العدل فبلغوا سعادة الدنيا . 3- الذين كان ايمانهم شكليا بلا محتوى ، فأعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، فلم ينالوا الدنيا ولا الآخرة ... ولا يختلف علماء الاسلام عموما في قضية تجسيد الاعمال في الدنيا ، فقد عاقب الله الأمم الماضية في الدنيا باعمالهم ، ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ﴾ [هود: 100 - 103]. (وَتِلْكَ ٱلْقُرَىٰ أَهْلَكْنَـٰهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا) [الكهف:59]. وعن النبي (ص) :(إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله عز وجل بعذاب من عنده ) . تقع الأمة عادة فريسة للجهل والغفلة وتحتاج الى ناصح أمين ، وفي سورة (يس) مثال لذلك : ( وجاء من اقصى المدينة رجل يسعى قال ياقومي اتبعوا المرسلين) فالبلدان التي تقع في دائرة الغضب الالهي يأتيها الانقاذ من ثلاث جهات : 1- علماء الدين . 2- ولاة الأمر من الحكام العدول . 3- وجهاء المجتمع والصلحاء والامناء عليه . فاذا ضعفت الفئات الثلاث او فسدت ، او خافت على مصالحها الطبقية يغرق المجتمع في مستنقع المعاصي المهلكة ، والمعاصي تنتج الغضب الالهي في الدنيا والآخرة ، رب قائل يقول : لماذا الكفار في بلدانهم اسعد من المسلمين ، والجواب : ان الناس سواء كانوا مسلمين او كفارا ينالون جزاء اعمالهم في الدنيا قبل الآخرة ، وقد احصى المفسرون لكتاب الله معاصي الامم السابقة وابرزها : ظلم الحكام او ظلم الناس لبعضهم ، الطغيان والتجبر ، ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الغلو في الدين والتطرف والتكفير ، كفران النعم الالهية ومقابلتها بالجحود ، التنافس والعداء لأجل مكاسب الدنيا وحطامها ، ثم ذكروا العقوبات التي ترتبت عليها وابرزها : الهزات الارضية ، الاعاصير والرياح العاتية ، سقوط النيازك من السماء ، المطر والطوفان والغرق الشامل ، الجفاف والفقر والجوع ، الامراض المستحدثة والاوبئة التي لا علاج لها ، الفتن والحروب والقتل العشوائي مع القسوة والوحشية والرعب والذل . الأمة التي تقع في دائرة العقوبات ، يكون افرادها في حالة غفلة ولا ابالية ولا خوف من الله ولا تمييز بين الحلال والحرام ، وحكامها في حالة تشبه السكر مع الطيش والشرود ، وفيهم الانانية والقسوة والجبن والشراهة في جمع المال والترف المفرط ، وعلماؤها فاسقون اخلاقهم الطمع والبخل والنفاق والتكبر والتنسك الزائف ومحاباة الحكام واتخاذ الدين غطاء لبلوغ الدنيا وهم أشد خطرا على الدين من الكفار! وهم قطاع الطريق الى الآخرة ، اما وجهاء القوم وصلحاؤهم فهم في عزلة وضائقة وضنك عيش وتهميش واهمال فالناس منهم هاربون ، والحكام عليهم غاضبون ، وعلماء السوء لهم محاربون ، كل أمة تمر بوضع كهذا عليها ان تنتظر البلاء ، وبدل العودة الى عاد وثمود وطسم وجديس وسبأ والعمالقة وما حل بهم في الدنيا من انتقام الهي ، لنعد الى أمة القرون الوسطى في اوربا وكيف نشأ التحالف التأريخي بين الاباطرة الرومان والكنيسة والاقطاع والعسكر ، وظهرت الأمة الفاسدة التي دفعت ثمن انحرافها في حروب الطوائف الرهيبة ، حتى جاء عصر النهضة . ممكن للانسان وضع نفسه وشعبه في الميزان ، فيعرف هل ان هذا العذاب الدنيوي هو بضاعتنا ردت الينا ؟ وهل ان نواميس الله وسنن التأريخ تنطبق على قوم دون آخرين ؟ وهل يوجد لله شعب مختار لا يشمله القانون في هذه القضية المنطقية ؟ |