إعلام الأزمة

 

لعل ما يعزز القول إن "الحرية مبدأ أخلاقي من جوهر شيطاني"، أبعد من سياقها الشعري الذي أراده فيلسوف!، هو ذلك الإدارك؛ بأن الأزمات الصعبة قادرة على كشف هذا التأصيل، ويمكنها تحديد مستوى الحرية (الإعلامية) من منظورها الشيطاني، فالتمرد على الكثير من القيم والأعراف والمبادئ المهنية الإعلامية، يحاول البعض تبريره بالسعي لإنجاز الحرية، معتبرين استثنائية الأزمات والانفعال خلالها سيسمح بتجاوز الحدود وعبور الحواجز والروادع المهنية والأخلاقية التي من المفترض أن يتم تعزيزها في مثل هذه الظروف بشكل أكثر.
في العنوان "إعلام الأزمة" هناك معنى في أن تجد الأزمة إعلاماً منصفاً، محايداً، يقف في نقطة الحياد وسط نزاع المتخاصمين، وهناك أيضا معنى آخر في أن يكون ثمة إعلام يعتاش على الأزمات، حد السعي لصناعتها وتضخيمها بحجم الغاية المؤملة بالانتفاع مهما كان الثمن. وربما تكمن أهمية الحديث عن الإعلام في زمن الأزمات، في الغاية المرجوة لإيصال الرسالة، وبطرق تضمن لمن يريد أن تكون تلك الرسالة محمولة على سعة من الخير أو الشر، وبالطبع فان ادعاء الجميع (المعلن) سيكون في جهة نيّة الخير، حتى يصدق على أفعال بعضهم القول: إن طريق جهنم معبد بالنوايا الحسنة!.
من يتابع الجهود الإعلامية المواجهة للعملية الديمقراطية في العراق، سيحزن بعمق من آلية التمكين الإعلامي كأول منجزات التحرّر التي توجب أن يكون الإعلام قادراً على تحقيق الحياد والموضوعية والقدرة على توفير المعلومة الحقيقية، وطرح جميع وجهات نظر الفرقاء، وترك الإنسان ليختار موقفه ويشكل وجهة نظره، دونما مخادعة أو مخاتلة أو فعل أو تأثير سلبي لإعلام يحاول صناعة الأحداث والوقائع، وأن يكون محركاً جوهرياً فيها. وهذا هو الرهان الأصعب، إذ تصبح للرسالة الإعلامية قدرة على الترفع عن أية مصلحة أو غاية فردية أو فئوية أو حزبية، وتكون في محل منافسة شريفة، وبروح إنسانية واعية تدرك المغزى في الرأي العام، وتسعى إلى مهنية تكسب هذا الرأي وتصنعه، لا من خلال التضليل والخداع والفبركة، فالتقدم الحاصل في العلوم والمعارف الإعلامية وأدواتها، سهل الكثير من جوانب الخير، ولكنه عزّز للشر وبشكل واسع كبير.
قبل أيام قررت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية، تعليق تراخيص تسع محطات تلفزيونية وإغلاق مكتب قناة الجزيرة في بغداد، بسبب"خطاب التحريض الطائفي"، كما أورد بيانها، وتعددت الاعتراضات على هذا المنع، لكن أغربها على الإطلاق ما أصدرته منظمة مراقبة حقوق الإنسان من بيان يستنكر، ويبدو إن هذه المنظمة لا تراقب بث هذه القنوات لتعرف ماهية ما يبث فيها من مشاهد وبرامج، وليس لديها من يتابع مستوى تردي حقوق الإنسان في محمول رسالتها الإعلامية، عبر تحريضها على قتله وامتهان إنسانيته بأبشع الوسائل. يا للأسف منظمات عالمية كبرى يخدعها إعلام الأزمة.. كيف يحصل هذا؟!.