اردوغان و" ثارات " دولة القانون

 

علي حسين سؤال ما هي افضل طريقة للهروب من الازمات التي تحاصرنا ? ٠٠ الجواب برفع رايات الثأر لان تظاهرات اندلعت في عدد من المدن التركية ٠٠ وقبل ان نسأل انفسنا هل تظاهر الاتراك بسبب الفوضى الامنية ام غياب الخدمات ام ان الامر يتعلق بانتشار ميليشيات الامر بالمعروف التي تملك صلاحية اعدام البشر في الشوارع ٠٠ ام بسبب الفقر وغياب العدالة الاجتماعية.. سيكون جواب بعض الشامتين والشاتمين لاردوغان ان ما يجري بسبب اصرار المدعو اردوغان على احياء عصر الهيمنة التركية على المنطقة .. من المضحك ان نجد نظاما قتل الالاف بدم بارد مثل نظام بشار الاسد يطالب اردوغان بالاستقاله لان تظاهرات خرجت تندد به .. ومن المثير للسخرية ان يظهر عدد من اشاوس دولة القانون يشتمون اردوغان لانه قطع أشجار في حديقة عامة .. بينما تبتر حياة الناس من جذورها في العراق كل يوم وسط صمت سياسي وحكومي .. تعلمنا تجارب الشعوب ان الأمم الحية لا تموت، وتستطيع أن تفاجئك في كل لحظة بكل ما هو مدهش وجديد، حين رأى كمال أتاتورك أن الحل الوحيد في إنقاذ الإمبراطورية العثمانية من مرضها القاتل هو بتقليص حجم طموحاتها الخارجية وتعزيز طموحاتها الداخلية بمجتمع آمن ومتطور ومستقر، ولم يجد أتاتورك انجح من دواء العلمانية في معالجة دولة أصابتها أمراض الشيخوخة والخرف والتخلف
ولكن بعد عقود من الدولة العلمانية صعد الإسلاميون الأتراك إلى الحكم، التجربة الأولى بقيادة نجم الدين اربكان أصابها الإخفاق بسبب طموحات الرجل غير الواقعية بتغيير صبغة المجتمع التركي بين ليلة وضحاها، إلا أن إسلاميي تركيا لم يصابوا بالإحباط واليأس وعادوا ثانية ليفوزوا بأغلبية مطلقة وليضعوا مؤذن اسطنبول "رجب طيب أردوغان" على كرسي الوزارة، ويمكنوا أستاذ الاقتصاد عبد الله غول من الجلوس على كرسي الرئاسة وهو الرجل الذي لم يمنعه احترامه لأستاذه وزعيمه أربكان من الاختلاف معه في الرأي وأن يقوم هو وأردوغان بقيادة حركة تجديدية داخل التيار الإسلامي في تركيا.
حين صعد إسلاميو تركيا إلى الحكم عام 2002 لم يخوضوا صراعا دمويا مع الجيش أو العلمانيين، و لم يفرضوا على الناس المسبحة والسجادة بالقوة، ولم يقوموا بغزوة على المجتمع التركي مثل غزوة الحاج كامل الزيدي ليفرضوا عليه تقاليد وقيم طاليبان، فهم يدركون جيدا أن الأتراك محافظون لكنهم محبون للحرية والعدالة الاجتماعية ولتقاليد الدولة المدنية،عبر أردوغان ومعه زملاؤه مضيقات كثيرة من اجل سلامة الدولة، يكتب الفيلسوف "برتراند رسل" في وصف السياسي الذكي قائلا: "السياسي الحق هو الذي يرى جميع التناقضات ويستوعبها، ثم يقدم رؤية غير متناقضة" وهذا ما فعله أردوغان ورفاقه، لم يرفضوا كل شيء، ولم يقبلوا أيضاً كل شيء، والاهم لم يمسكوا مايكروفونات ويتحولوا إلى وعاظ، بل سعوا إلى تقديم صورة جديدة للإسلام غير تلك الصورة المشوهة التي قدمها إرهابيو القاعدة ومشايخ فتاوى نجاسة الوضوء وإرضاع الكبير، صورة لإسلام يؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة ويؤمن في حق الجميع بالتعبير عن آرائهم في حدود القانون والدستور، مما جعل من مؤذن اسطنبول "أردوغان" أن يصبح الشخصية الأكثر احتراما عند العرب والغرب حسب استطلاعات قامت بها مراكز للرأي في أوربا، حيث يرى فيه العالم نمطا مختلفا عن قيادات منطقة الشرق الأوسط فهو براغماتي ولكن في نطاق مجموعة من المبادئ التي لا يحيد عنها ولا يقبل التنازل بشأنها.
منذ سنوات يخوض أردوغان معركة الحجاب مع القضاء التركي وفي عهد أستاذه اربكان منعت نائبة من دخول البرلمان التركي لأنها محجبة وحتى هذه اللحظة يثير ترشيح سيدة محجبة للبرلمان كثيرا من الجدال والنقاش بسبب تعارض ذلك مع الدستور. ولم يخرج أردوغان أو أي من أركان حكومته ليكفر القضاة ويصفهم بـ"الثلة" المخمورة أو الزنادقة، ولم يرفع أردوغان سيفه بوجه العلمانيين ويعلن أنهم بحاجة إلى ثورة تعيد إليهم الصواب، بل خرج إلى الناس مبتسما إلى جواره زوجته المحجبة، لم يفرض أردوغان الحجاب على النساء ولكن نسبة المحجبات في تركيا ازدادت قي زمنه، بسبب شعبيته الكبيرة بين كل طبقات المجتمع، لم يقف أردوغان أمام الفضائيات ويطالب بتكفير المثقفين لأنهم يرفضون الحجاب، ولم يتحول إلى خطيب مفوه يفتي بحرمة البنطال وإشاعة الزي الإسلامي في مؤسسات الدولة، ولم يسع إلى الفصل بين الطلاب والطالبات في الجامعات التركية، ولم يغلق دار سينما ولم يقم بغزوة إلى اتحاد أدباء تركيا، بل سار بخطوات هادئة وأنيقة يريد لتركيا الإسلامية أن تكون عضوا في الاتحاد الأوربي، وان يقدم للعالم أنموذجا للإسلام المعاصر، إسلام يحترم الاختلاف ويسعى للتعايش مع الآخرين ويؤمن بمقومات الدولة المدنية.
هذه الدولة التي تعرضت ليرتها عام 2004 إلى كارثة يصبح ناتجها القومي هذا العام 780 مليار دولار.. وتستقبل اسطنبول التي يحكمها حزب إسلامي أكثر من ثلاثين مليون سائح كل عام ، لا تطاردهم شرطة الآداب ولا يتعرضون لصولات ميليشيات يغذيها ويسمنها مكتب رئيس الوزراء .. الأرقام تنعكس على حياة الناس وأمنهم واستقرارهم، لتجعلهم يشعرون بأن هذه البلاد صار لها دور دور ومكانة .. في المقابل نحصد نحن مع احلام المالكي عشر سنوات من الخيبات والازمات .. بلدا مريضا تفتك به أمراض السرقة والرشوة والتزوير والانتهازية والمحسوبية، والأخطر مرض الزعامة الزائفة.
سيتهمني البعض بأنني أنفذ أجندة اردوغانية .. وإنني أعمى البصر والبصيرة عندما لا أرى تدخل تركيا في الشأن العراقي .. وقبل ان ارد التهمة عن نفسي دعوني اسأل سؤالا بريئا من سمح لتركيا وغيرها من ان تدس انفها في شؤوننا .. غير سياسيي الحقائب وزعاطيط السياسة.