عن تطور مفهوم الصراع من أجل البقاء |
لا يحمل "الصراع" من أجل البقاء، كينونة البقاء بمقوماته الأساسية بالضرورة، كـ التغذية، والتناسل. ويظهر هذا بجلاء في عالم الإنسان، الحيوان العاقل. وهو من المفترسِات غير المتخصصة كما يصنفه علماء البيئة، أي التي تقتات على أي شيء حي تقريبا مثل فصيلة النمور والكلبيات. كما تقتات على نفسها بأكل لحوم جنسها (Cannibalism) في سنينها العجاف أو لضرورات أحوالها النفسية. أو بأساليب أكثر تعقيداً ومأساوية من الأكل بالمعنى الحرفي. فيما تلجأ الحيوانات المتخصصة الى الاكتفاء بالتغذية على نوع واحد من الأحياء، فهي بهذا أقل ذكاءً أو انتهازاً للفرص من سابقتها. يحكي التراث المثيولوجي للبشرية، عن أول صراع حصل من أجل البقاء بمقوماته الأساسية، وبصيغة الفوز بالأنثى الأجمل كما تسرده المرويات الإسلامية. وبمقوماته غير الأساسية، وبصيغة الفوز بقيمة ماورائية كما تسرده مرويات العهد القديم والمسيحية. وله صور أُخر في التراث كما في النصوص الفرعونية مثالاً. وتقع صورة هذا الصراع، لو ابتعدنا عن ظاهره المحكي الى رمزيته؛ في أطر مختلفة من التفاسير الفلسفية للتراث. فقد تظهر صورته في إطار الفكر العقلاني المتمثل بـ قابيل، وصراعه مع الفكر اللاهوتي المتمثل بـ هابيل. أو في إطار الخير المتمثل بـ هابيل، وصراعه مع الشر المتمثل بـ قابيل. وهذا الأخير قد يمثل المسيح الدجال الذي يمثل بدوره الفكر الماسوني في بعض التفاسير، وصراعه مع آلهة الخير والخصب والنماء المتجسدة في شخص هابيل. وهلم جرا... وتحت مظلة المثيولوجيا نترك سؤالاً هامشيّاً: هل بدأ الصراع من أجل البقاء في الأرض، أم في السماء بـ ابليس وآدم وحواء مع الرب؟. هذا لو صدقنا أن الصراع لا يحمل كينونة العنف الفيزيائي دائما. مثلما ضغطت قوى الطبيعة فدفعت اسلافنا الى الاقتيات على الحيوان؛ ضغطت حياتهم الجديدة القائمة على الصيد والافتراس بدورها، لانتاج وعي متطور يحيط بالعالم الخارجي، وحرضتهم على التجوال والانتشار جريا وراء الطرائد، بعد أن كانوا راسخين نوعا ما بالاقتيات النباتي. وهذا يذكرنا بمقولة ماركس الشهيرة " ليس الوعي من يحدد الحياة، بل الحياة من يحدد الوعي." تأخذ هذه المقولة بعداً مدوراً بتصورنا، فالحياة تحدد الوعي، والوعي يحدد بدوره الحياة. وهلم جرا في هذا المسلسل المتعاقب مع امتداد الزمن. ولهذا التحول في الاقتيات، الأثر الأبلغ في انتاج ردود أفعال جديدة كـ خصخصة العمل تبعا للجنس؛ خلقت وعيا تأمليا زاخرا بالابداع وقوة الخيال، أو وعيا اسطوريا. وفي هذا عبر ميرسيا الياد، مؤلف موسوعة "تاريخ المعتقدات والأفكار الدينية"، وبتصرف؛ عن وحدة التاريخ الروحي للمفترسات العاقلة والذي بدأ مع إراقة الدم. فالمطادرة المستمرة والأماتة، انتهيا بمنظومة من التضامن الصوفي بين الصياد وضحاياه. والتي تكونت مفاهيمها في المراحل الأخيرة من التطور الى بشر. طقوس البدائيين من الصيّادة في زمننا المعاصر، كالرقص الدائري حول الفريسة احتفاءً بها أو لطمأنة روحها، وتعليق العظام والجماجم على الأشجار أو تسطيرها في المدافن وما إليه من شعائر، تحكي عن جذورها لدى اسلافنا القدامى في أغوار الزمن السحيق، وتلتقي بشكل أو آخر، بطقوس المعتقدات الدينية المنظمة. مع التعقيد المركب الذي اصاب الحياة مع ردح الزمان في شتى مناحيها، بتطور العلوم والفلسفات والمعارف بشتى صنوفها وحقولها، وما انتجته من وسائل للانتاج والسيطرة النوعية على مصادر الطبيعة؛ تطور مفهوم الصراع من أجل البقاء، فتعددت أساليب الصيد، وتنوعت نظمها وقواعدها، استراتيجياتها وأيديولوجياتها، حتى لم نعد نشعر بأننا صيّادة "مفترسات" بل أبناء حضارة. وهذا شعور صادق تماما، فالحضارة والافتراس صنوان لا يفترقان. هذا لو فهمنا الافتراس كـ سنة من سنن الطبيعة عمرها نصف مليار سنة تقريبا، تعود بنا الى نهاية العصر الكامبري. وأن الاقتيات النباتي في المفهوم البيئي، افتراس أيضا، كون النباتات كائنات حية. وهي سنة تحفز الأضعف على انتخابات طبيعية للوقاية والدفاع وتخلق نوعا من التجديد والتوازن. وكل تجديد قد يلازمه خطر موت جماعي أو زوال كـ نتيجة عرضيّة!. بتناسل "ضرورات" البقاء وتنوع حقولها بشكل مهوول، وابتعادها اشواطا ضوئية عن ضروراته البدائية أو الأساسية، صار غير الضروي ضروريا للبقاء، ليس على قيد الحياة، بل على قيد حضارة. نختم هذا الجزء بسؤال بريء براءة العصر الحجري القديم، ذي شقين: إذا كنا نلهث كل يوم من أجل لقمة العيش "كما ندعي"، فلِم لا نخرج للصيد إلاّ من أجل الاستجمام، هذا لو وجدنا إليه سبيلا؟. وهل فعلا قد هجرنا الصيد والافتراس، كما بُلّغنا؛ منذ عشرة آلاف سنة تقريباً، بوقوفنا على التقانة الزراعية؟ سنحاول الاجابة عن هذا السؤال، في رحلة شيقة على متن الجزء الثاني مع لغة الطبيعة، الأكثر افصاحاً عن كينونة عوالمها. ومنها عالم المفترسِات العاقلة الذكية في صراعها المارثوني من أجل بقاء. ولام التعريف المتوقع ظهورها في "بقاء".. لم تسقط سهواً.. |