في مقال له بمجلة " ميدل إيست " البريطانية المموّلة من السعودية ، يتحدث الكاتب العراقي الساخر خالد القشطيني عن زيارته الأخيرة للعاصمة العراقية بغداد من جوانب مختلفة ، بعضها إيجابي ، و الآخر يتناول سلبيات موجودة ، و ثمة صنف ثالث يتضمن إسقاطات ذاتية . يفغر الكاتب الموصلي المحتد فاهُ ، و هو يقرّر أن بغداد لم تعد تلك المدينة الحضرية التي كان يعرفها ، بعد أن هجرها ذوو الكفاءات و المتعلّمون و هم في الغالب ، كما يقول ، سُنّيّون و مسيحيون ، و غزاها الريفيون ( لم يجد حاجة ً إلى التذكير بأنّهم جنوبيون و شيعة ، فهذا من الواضحات المعلومات ) وطبعوا لهجتها بطابعهم ، حتى لم يعد و هو البغدادي الأصيل ، قادراً على فهم ما يقولون و يغنّون . القشطيني ، الكاتب الساخر الرقيق ، يظلّ مسالماً و متحضّراً و هو يشير إلى هذه الظاهرة ، لكن كاتباً و شاعراً آخر عدوانياً و فظّاً ، لا يسلم أحد ( خصوصاً نوري المالكي رئيس الوزراء ) من أحجاره المنهمرة يومياً ، يشير بحسرة واضحة إلى الظاهرة " العجيبة " ذاتها ، و يعقّب ، بأنّ اللهجة البغدادية التقليدية انحسرت ، في الآونة الأخيرة ، و لم تعد متداولة إلا في حيّ الأعظمية السنّي . الغريب في الأمر ليس هذا الكشف العلمي الخطير ، بل كَوْن الكاتب المهذار غير قادر حتى الآن على الفكاك من ربقة لهجته الجنوبية ، و كَوْن كلّ بغداديّته لا تتعدّى هجرته يافعاً بمعيّة العائلة ، من مدينته الجنوبية إلى حزام البؤس ، الذي عُرف فيما بعد بمدينة الثورة . فهمنا ، إذن ، أن أهل الجنوب ، المعدان ، المتخلّفين ، غزوا بغداد و أجبروا " أهلها " على النزوح . و هي ترجمة أخرى هادئة ، لهتاف عصابة " متحدون " : بغداد النه و ما ننطيها . لكن ما لم نفهمه أن حواضر العالم بأجمعه تعاني ظاهرة التريُّف نفسها ، من دون أن تسقط على الأمر ظلالاً طائفية أو عنصرية ، فلماذا يحدث هذا الأمر في العراق فقط ؟ الصعايدة يملأون القاهرة ، مثلاً ، و النكت و الطرائف الشعبية تزخر بقصصهم ، الحقيقية و الخيالية ، لكنّ أحداً لم يرمهم - على سبيل المثال - كما يُرمى بخصلة الخُبث أهل الناصرية العراقية المهاجرون إلى بغداد ، و الباقون في محافظتهم ، على حدٍّ سواء ! ماذا لو - مثلاً أيضاً - قرّر أهل الجنوب ، أن لا يريحوا أهل بغداد من لهجتهم المزعجة فحسب ، بل أضافوا إلى ذلك ثرواتهم أيضاً ، فالقضية " پَكِج " لا يتجزّأ و " گوترة " : تريد شيئاً ؟ عليك أن تقبل بالكل ، فماذا سيكون رأي المتباكين على ضياع اللهجة البغدادية ؟
|