الكبار يحركون الصغار

 

 

 

 

 

 

طرحنا للنقاش قبل يومين على صفحتنا الشخصية في الفيس السؤال التالي :
لماذا بدأت المصالحة بين الخصوم السياسيين العراقيين بعد ثلاثة أيام من التظاهرات في تركيا ؟ !
وقد رأينا نقاشا سياسيا راقيا دار عليها , واطلعنا على تحليلات سياسية رائعة , وتعليقات بعضها لا تخطر على بال أحد في لحظتها , لدرجة تجعل المرء أن يكون ممنونا من كل المداخلات والآراء المطروحة , حتى ليقول في نفسه والله ما زال العراق بخير ما دام فيه اناس يفكرون بهذه الطريقة وهذه القدرة .. الأمر الذي يجعلنا أن ندعو سياسيي الصدفة وزمن الغفلة الى مراجعتها , للتعلم منها والاستفادة من الرؤى جميعها , بل والتوقف عندها , ليتعظوا من أن العراقيين ليسوا ساذجين كما يتصورون هم في أنفسهم .
أما وقد أدلى الكثيرون بدلوهم , صار لزاما علينا أن ندلي نحن الآخرين بدلونا أيضا , ونبين رؤيتنا واجابتنا على سؤال ما يحصل في العراق والمنطقة .
دعونا نتفق أول مرة على ان العالم تحكمه الكبار وليس الصغار , وما الصغار الاّ أدوات بأيدي الكبار , أو لنقل في أحسن الأحوال جنود يتصارعون ليس بعيدا عن عيون الكبار . ووفقا لمعادلة الكبار والصغار , فان هناك دوما كبارا ومَنْ هو أكبر منهم , فضلا عن الأكبر والأعظم في العالم , واليوم طبعا الولايات المتحدة الأميركية .
لدينا نحن في بلدنا العراق مشكلة مستعصية , لم تفارقنا يوما على مدى ثمانية آلاف سنة من عمرنا ووجودنا وحضارتنا , وهي اننا تارة نكون كبارا أقوياء , وأخرى صغارا ضعفاء . وعلى سبيل المثال وليس الحصر , لقد كنا كبارا وأقوياء قبل عقود من الزمن , ولم تكن دولة لتجرؤ على الاعتداء علينا , أو التحرش بنا , ولكننا اليوم صغار ضعفاء في أردأ وأسوأ مراحلنا التاريخية .. ولهذا يعبث ببلدنا ومقدراتنا الغرباء والحاقدون والحاسدون , من طلاّب الثأر والانتقام .
بينما في المقابل تعتبر ايران وتركيا اليوم من الدول اللاعبة في منطقتنا , وهما دولتان كبيرتان بالنسبة الينا ومحيطنا الاقليمي . هاتان الدولتان تخوضان صراعا تاريخيا قديما فيما بينهما , نكون نحن للأسف ساحته أحيانا مثلما اليوم تماما .
ومما لا شك فيه ان السياسة تتطلب من هاتين الدولتين اختراقات أمنية واستخبارية متبادلة على أراضيهما , واجتذابات مجتمعية وعرقية وطائفية على مسارح صراعتهما خارج بلديهما .
ولتطبيق هذه السياسة نقول : ان تركيا اشتغلت - كما أكدت التحقيقات الايرانية - على اجتذاب الاصلاحيين في ايران ودعمهم ومساندتهم في ثورتهم ضد سلطة الولي الفقيه . كما انه من الثابت بأنها تساند طوائف وقوميات ليست فارسية في ايران , مثل السُنّة والبلوش والآذريين والأتراك .
في المقابل ان ايران تدعم وتساند علويي تركيا وأكرادها ممثلين بحزب العمال الكردستاني , بزعامة عبد الله أوجلان , والقادة العسكريين الذين أطاح بهم غول , فضلا عن علاقاتها التي سعت الى توطيدها منذ سنوات مع أكبر حزب علماني معارض في تركيا , ألا وهو حزب الشعب الجمهوري .
هذا ما يخص اللعب على ساحتي البلدين وفيهما . أما ما يخص اللعب في المنطقة , فان ثمة صراعا مستشريا بين البلدين على دول متحررة من الاتحاد السوفياتي السابق , شعوبها مسلمة بدرجة أساس ومن أعراق تركية وفارسية وغيرها , نعني بها تركمانستان وأوزبكستان وطاجكستان وقرقيزستان , فضلا عن صراع شرس على أرمينيا غير المسلمة وغير المتصالحة مع تركيا . يأخذ الصراع هنا كل أشكاله , من سياسي الى اقتصادي , مرورا بالثقافي والديني وغيرها .
كلنا يعرف بأن تركيا تناضل منذ عقود للدخول في الاتحاد الاوربي وحلف شمالي الأطلسي واعتبارها من قبل المجتمع الدولي كدولة أوربية , وان اوربا ترفض دوما بذريعة الخلاف مع اليونان وشروط أخرى لم تنفذها تركيا .
وقد ازداد التعنت الاوربي والتصلب في رفضه حتى بعد مجيء حزب العدالة والتنمية التركي , بزعامة الثنائي عبد الله غول ورجب طيب أوردغان , بعد وراثتهما لحزب نجم الدين أربكان .لذا أقنع وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو قبل سنوات كلا من غول وأوردغان - باعتباره أستاذهما في السياسة الدولية - استخدام سياسة تصفير المشاكل مع الدول .. وفعلا نفذت تركيا تلك السياسة , وأنهت مشاكلها مع الدول , باستثناء أرمينيا التي ظلت تطالبها بالاعتذار عن المذبحة المروعة التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحق الأرمن قبل مائة عام .
يبدو ان سياسة تصفير المشاكل لم تنفع مع العالم , ولم تؤدِ الى احتضان تركيا كبلد أوربي , فلجأت تركيا الى العرب كبديل يعينهم في اقتصادهم النامي والمتطور , وظهير تستخدمهم ضد عدوها اللدود التاريخي ايران . غازلتهم بمسلسلات ارستقراطية باذخة , تروي حكايات لا أساس لها من الواقع التركي الاّ في قصور السلاطين والباشوات , لاغراء البسطاء والسذّج من الناس , الذين صار كل همهم زيارة تركيا وجزيرة الاميرات . ولم تخيّب تركيا ظنهم ففتحت لهم الحدود من دون فيزا ولا تأشيرة , ولعله من الطريف أن نقول ان أول مَنْ دشّن تلك السياسة واستفاد منها هم السوريون .. وهكذا العراقيون لاحقا . 
وصارت تركيا منذ سنوات قبلة العرب في الموسم السياحي بالصيف , فكلما ثارت دولة عربية , أو حصل فيها اضطراب , أو حصلت عملية ارهابية في دولة اوربية يتوجه حجيج المصطافين العرب زرافات زرافات الى اسطنبول وبورصة .. فتدخل المليارات العربية جيوب الأفندم والخانمات .
السؤال : أين نحن من هذا السرد الساسي ؟ حين سقط صدام اضطربت المعادلة التركية الايرانية في العراق اضطرابا ليس له سابقة تاريخية الاّ قبل قرون من الزمن , أيام ايران الشاهنشاهية وتركيا العثمانية . بمعنى ان لابد من أدوات وسياسات ايرانية تركية جديدة في العراق .
سارع البلدان العدوّان الى الدخول للعراق , ولعله من المؤكد والمفروغ منه أن تكون لايران اليد الطولى في العراق , بحكم سيطرتها الجغرافية ( 1150 كم ) كحدود معها , شمالا وشرقا وجنوبا , وبحكم التواجد الشيعي المكثف بالعراق .
وفي الوقت الذي تحاول تركيا استرداد مجدها العثماني في العراق , هي تعمل على زعزعة الطرف الآخر من المعادلة الطائفية لقلب الطاولة على ايران , ولكن أين هذه المرة ؟ من دون أدنى شك أن تكون سوريا هي الساحة المرشحة للعب الدور التركي فيها , كون العلويين أقلية حاكمة فيها , ومن ثم قطع الطريق على حزب الله اللبناني في جنوب لبنان . لهذا تعمل تركيا كل ما في وسعها من أجل تسليم السلطة للسنة في سوريا .
وبدلا من الاستمرار في سياسة تصفير المشاكل لاوغلو , بدأت تركيا بسياسة عدّ المشاكل في العراق وسوريا . لا يخفى من أن سياسات البلدين ( تركيا وايران ) تحضيان بتأييد ودعم من الدول الصغيرة والضعيفة في المنطقة , نعني قطر والسعودية والعراق وسوريا .. وبقية الدول .
كما ترى - عزيزي القارىء - لم نتحدث عن تسمية للسياسة الايرانية , لأن لايران سياسة ثابتة ومستقرة لم ولن تتغير , ألا وهي الضحك على دولنا واستهلاكها , وفي أبسط الأحوال التفرج عليها . وهي لا تتدخل الا اذا أرادت التوسع على حسابنا , وليس لمصلحتنا .
الآن نأتي الى العراق . منذ فترة تخطط ايران لتسليم السلطة بالعراق الى المجلس الأعلى , وليس الى سائر حلفائها الآخرين , من حزب الدعوة والتيار الصدري والعصائب وغيرهم . ما يعني ان رئيس وزراء العراق القادم سيكون من المجلس . وأول ما بدأنا في انتخابات مجالس المحافظات الذي حصّل فيها المجلس أكثر مما يستحق .
اذاً لابد من دور يلعبه رئيس المجلس الأعلى لتثبيت مكانه ومكان تنظيمه السياسي بين الكيانات والوجودات السياسية العراقية . ألا وهي الدعوة لاجتماع مصالحة بين شخصيتين , لا خلاف بينهما الاّ على الزعامة والقادة والتمثيل الطائفي الضيّق .
لا شك في أن الاجتماع التصالحي العراقي مخطط له منذ فترة , ولكن لا شك أيضا في أن التخطيط الايراني لاثارة الشارع التركي يُعمَل عليه منذ فترة أيضا .. لم يخرج الشارع التركي ضد حكومته عفويا , وليس اقالة بضعة أشجار من ساحة سببا مقنعا لخروج الملايين في 67 مدينة تركية . 
السياسة ليست بهذه السذاجة والبساطة , لأن التحضير لاخراج بضعة نفر الى الشارع يحتاج الى أموال وامكانات وبرنامج وتنسيق وأجهزة وأناس متطوعين . وهذا ما فعلته ايران على مدى شهور من التخطيط والعمل والتنسيق والاعلام والشحن الساسي بين صفوف كل المعارضين للسياسات التركية .
ان الرسالة التي أعلن عنها الرئيس التركي عبد الله غول بأنها وصلت وانه استلمها , مفادها كفانا تدخلا نحن الاتراك في شؤون غيرنا , دعنا نعيش يا أوردوغان , مثلما تتدخل أنت في شؤون غيرنا فان غيرنا قادر على التدخل في شؤوننا , واذا كنتَ أنتَ مدافعا عن حقوق الأقليات والطوائف في البلدان الأخرى فلماذا لا تعطي حقوق الطوائف والأقليات في بلدنا تركيا أولا .. كفى مزايدة يا اوردوغان .. هذه هي الرسالة التي أوصلها المتظاهرون الأتراك الى حكومتهم . 
وهي ذات الرسالة التي أبلغتها ايران للأطراف السياسية العراقية منذ فترة , الاّ أن الجميع كان في انتظار التوقيت المناسب لتلبيها .. حتى وقع التوقيت وحضر مَنْ حضر . فحين يقرر الكبار ليس على الصغار المناقشة , انما التنفيذ فقط .