من هذا المكان علّقت على انتخابات المجالس المحلية التي جرت مؤخرا مذكرا فقط بالتباسات انتخابات عام 2010 . لم اخف تشاؤمي من ذلك النشاط ، فأي سباق انتخابي يجريه النظام السياسي يوقظ الموتى ويجعل الاحياء يتصفون بالشراسة . إن من يؤمن بالآلية الانتخابية وحدها لا تعني له الديمقراطية غير السلطة. البطرياركيات السياسية للاحزاب الدينية غير معنية بالدستور ، ولا الالتزام بمفهوم المواطنية ، ولا بأية قيمة وطنية عليا ، بل بالسيطرة على السلطة.
محمد مرسي قبل كتابة الدستور قدم اعلانا دستوريا شق فيه الشعب المصري . السلطة الحالية التي تحيلنا دوما الى الدستور وتراه حكما ، تخترق الدستور على عدد الساعات في عشرات القضايا الصغيرة والكبيرة . الانتخابات بالنسبة لتلك الاحزاب تشبه لحظة تجديد الولاء. تلك هي اهميتها ، فتذهب اليها باشتياق : آلية حدد الدستور عملها لصعود الصاعدين الشرسين ونزول الذين سمنوا وراحوا (يتريعون) بوجوهنا!
كل انتخابات تنخس الروح الطائفية وتوقظ مصالحها وتوزيعات قواها . إن طبيعة النظام السياسي الحالي يعكس نفسه بقوة عليها ، لهذا فهي معقودة لاولئك الذين (لن ينطوها إذا ما أخذوها) ، وإذا ما اخذت منهم بعض الاصوات انتقموا على طريقتهم ، واشاروا الى وجود عدو متربص ، خالقين وضعية نفسية خانقة لكي تواصل مكاسبهم السابقة العمل في تحالفات السلطة – الطائفة.
من المؤسف ان بعض الديمقراطيين لا يدرك حقيقة ان النظام السياسي في الشروط العراقية كان قد تشكل وهو يحمل بين اسنانه لبننة طائفية ليس من السهل انتزاعها منه ، وكل تبجحاته عن الديمقراطية تجعله يتمسك لخندقه الطائفي الاول ، والتوزيعات السياسية – الطائفية الملحقة به ، كحكومة الشراكة الوطنية ، ومعادلها العملية السياسية ، او الشكل المحاصصي الطائفي ، وهي صور - لفظية متعددة لامر واحد.
لقد أشار البعض الى ان دولة القانون خسرت في انتخابات مجالس المحافظات الاخيرة عددا من مقاعدها (نحو 70 حسب بعض الاحصاءات) في حين أن هذه الخسارة لم تذهب الى قوى مدنية يعتد بها تمتلك مشروعا في دمقرطة الادارات وتوسيع الحقوق المدنية . أزاء ما خسرته دولة القانون أكتفي انا بالإشارة الى أن القوى المدنية لم تحصل الا على نحو 11 - 13 مقعدا في جميع المحافظات. وأزاء ما يعتقده البعض أن دولة القانون تلقت هزيمة لقاء تقدم الصدريين والمجلس الاعلى ، أرى أن الهزيمة الحقيقية تلقتها القوى المدنية واليسارية ولا أحد غيرها . لا تعني هذه الهزيمة ، في الظروف الحسية العراقية ، غير ازدياد نفوذ القوى السياسية الدينية والطائفية التي ستثير المزيد من المصاعب والانقسامات.
المولعون بالحكمة قد يطبقون عليّ حكاية الكأس الذي نصفه فارغ ونصفه الآخر ممتلئ . لا أنكر أنني متشائم ، ومولود في برج الفراغ ، وسأختار النصف الفارغ . (أنا خائن الأمل للمرة العاشرة بعد المئة!).
كان علي الوردي لا يحب الارقام لأن العراقيين لا يقدمون معلومات صحيحة حسب رأيه . على عكسه أنا لا أكره الارقام لكن أرى قبلها التشكيلة السياسية - الاجتماعية المهيمنة التي تضفي عليها المعنى . أنا متضايق من اليسار ، لكني أدرك أن إبعاده وإضعافه يمثل قوة لليمين الاولغارشي الذي يتظاهر بالدفاع عن الفقراء والديمقراطية. منذ زمان تآمر الغرب على القوى المدنية والليبرالية وأضعفها ، فانتقلنا من دكتاتورية الى اخرى وها نحن في فم السبع الطائفي وقوى ما قبل الدولة التي تطحن الحجر في اسنانها المعدنية .
إن من رحب بخسارة المالكي النسبية لا يعرف في الحقيقة ماذا ربح هو ، ولا يدرك الافق السياسي الذي ذهبت اليه الاصوات التي خسرها المالكي. لم يحن الاوان لتتكشف القيمة السياسية والثقافية لهذه الانتخابات على ارض الواقع ، ولسوف تظهر حقيقة أن المقاعد التي خسرتها دولة القانون ، لم تستفد منها الحياة المدنية بالمعنى العام للكلمة ، بل ربما العكس، فمن ربحها ليس أفضل من دولة القانون في الموقف من الحريات المدنية ، بل ربما أسوأ.
لقد جرت جريمة قتل الايزيدين بدم بارد بعد الانتخابات. وسواء فعلها (خاسر) لكي يربح الجنة ، او فعلها (رابح) لكي يحتفل ويقدم القرابين ، فإن السلطة التي صمتت ولم يند منها اي تعليق - السلطة التي اجازت للبؤساء الايزيدين فتح دكاكينهم هي جزء من اللحظة المدنية الفقيرة التي يراد دفعها نحو ايصال الحياة العراقية تنتظم على وفق قواعد طالبان او ولاية الفقيه.. ولا فرق كبيرا بينهما على ساحة متخلفة تغري بالوقاحة وانعدام المروءة. إن من يسمح بكل هذه الاعمال المشينة قادر على ادارة أسوأ الصفقات والتغطية عليها .
هل أحسب التفجيرات الاخيرة على نتائج الانتخابات او هي تحضير لنشاط انتخابي؟ ليس قصدي التشكيك بالسلطة ههنا . لكن استحصال حالة سياسية من اعمال ارهابية باتت تكمّل الشكل السياسي التجريدي الذي تأخذه الحياة السياسية العراقية كلها. إن سياسة مغرقة بالروح السياسية بمعنى اللعب ومحاصرة الخصوم ومسك الملفات وتأجيل الاصلاح السياسي ، وتعمل بلا اطارات دولة حقيقية ، إنما تكشف اوراقها علنا امام الارهاب بجميع الوانه سواء جاء من القاعدة او من اية قوة سياسية صاعدة. إن نسقا موضوعيا يضم توقعات واهدافا محددة يتشكل بين انكشافات سلطة كهذه وارهاب يقوده سفلة وعملاء ومافيات اقتصادية مسلحة.
على اية حال تتوهم النزعة السياسية في تحليل الارقام في سياق الخصومة وحدها نصرا غير موجود ، وتنسى أن ميزان القوى الذي اختل ما بين القوى المدنية والدينية لمصلحة الأخيرة منذ 2003 يزداد عمقا ، ويسحب معه سياسة كاملة نجدها مجسدة في تدهور الوضع الامني والتخندق الطائفي والانشقاق السياسي والفساد وانهيار التعليم وارتفاع منسوب الامية الحضارية. والعامل الآخر الذي تنساه هذه النزعة هو أن الديمقراطيين الكرد طوروا نزعة سياسية واقعية موازية لا تولي الاهتمام للقوى المدنية العربية الا في المهرجانات الثقافية والخطابية، وماعاد اهتمامها ينصب الا على احتياجاتها القومية. وهكذا فإن خسارة القوى المدنية مضاعفة. إن ما خسره المالكي من اصوات ربحه من قضايا اخرى.
هكذا تعمل النزعة السياسية ، هكذا يدام السعار الخاص بتوزيع الارباح!
ماذا يساوي هبوط أرقام دولة القانون - وهو مجرد علامة لشيء آخر - مقابل انحسار القوى المدنية والديمقراطية وجبنها؟ ما المهم ههنا؟ المهم هو كيف يعمل النظام السياسي . ها هو لا يتعلم ، اقتصاده وأمنه مكشوفان ، ويخطئ في ابسط البديهيات المتعلقة ببناء الدولة والعمل السياسي .
لا استطيع أن ارى نصرا أو تطورا محددا في الانتخابات الاخيرة سوى فشل السلطة وعزلتها ، ما أوصل غالبية الناخبين الى قرار عدم المشاركة. يمكن القول إن اللامبالاة في الشارع العراقي هي التي حققت نصرها على الجميع ، لكنه نصر ستدفع تكاليفه الحياة المدنية على اية حال.
لقد تحددت نتيجة تشبه الوضعية البرلمانية بكل مصاعبها المعروفة ، وهي عدم حصول اية قائمة بأكثرية تجعلها متحكمة في مجالس المحافظات. ومن المبكر استنتاج تأثير ذلك على قرارات هذه المجالس وحركتها ، إن كانت سلبية او ايجابية، فالمنافسة السياسية قد تقوي نزعة الرقابة المتبادلة الذي يحد من فساد اعضائها، لكن قد تعيق اتخاذ القرارات والعمل المشترك . هناك احتمالات عديدة في سلوك اعضاء هذه المجالس تبعا لقدرتهم على التحرر من القيود السياسية للجماعات التي ينتمون اليها أو خضوعهم لها .
لقد اثبتت التجربة أن التسييس ينتصر على الكفاءة والمهنية . ترتفع مناسيب التسييس مع كل نشاط انتخابي ، وبموازاته يجري التخويف الطائفي . مشكلة التمثيل في المجالس المحلية متفرعة من مشكلة التمثيل الطائفي في البرلمان الذي بات يشكل أسس النظام السياسي في شكله المحاصصي او شكل الشراكة ، والاصل في الاثنين التمثيل على أسس طائفية ، مع الكثير او القليل من اللبننة. ترتفع مناسيب تدهور الوضع الامني مع كل نشاط سياسي ، وليس مرجحا ان ينخفض في ظروف نقترب فيها من الانتخابات النيابية . إن الحصول على المكاسب السياسية من قبل القوى والاحزاب الحالية يقوى لامبالاتها ازاء مخاطر الاحتراب الداخلي.
|