توالت بيانات الشجب والإستنكار والتنديد من الأمم المتحدة ومجلس الأمن ورؤساء وزعماء العالم الغربي والعربي إثر بث تنظيم (داعش) تسجيل فيديو يظهر فيه متحدثًا منهم يقف أمام مجسم أثري كبير في متحف نينوى .. مُشيراً بيده إلى المجسم قائلاً : إن هذه أصنام وأوثان لأقوام في القرون السابقة كانت تُعبد من دون الله وتعود هذه التماثيل إلى حضارة الآشوريين والأكاديين وغيرهم كانوا يتخذون آلهة يشركون بها بالله ويتقربون إليها بشتى القرابين ليشرعوا بعدها بتدمير كافة مقتنيات المتحف بالمطارق، فيما تتردد فى الخلفية آيات من القرآن الكريم تروى قصة الخليل إبراهيم مع الأصنام وكيف أنه حطمها... وبإعتبارنا نحنُ أبناء نينوى(الموصل الحدباء) سنضع النقاط على الحروف ونحاول إزالة اللبس وبيان الحقائق التي نعرفها (فأهل مكة أدرى بشِعابها) ، عسانا نُسهم في فقئ عيون الإعلام العمياء أو الحولاء أو العوراء خاصة ً بعد أن راح يذرف دموع التماسيح على مقتنيات متحف الموصل بالعراق؟ متسائلاً هل تهاوت آثار حضارة تعود للقرن الثامن قبل الميلاد؟ وقد تجاهل بكاء علماء الآثار على إرث العراق العظيم بكاءٌ أشدُ من بكاء الأم على وليدها مع وصول أولى سُرف دبابات الإحتلال وقصفها للمتحف العراقي في قلب بغداد وتحطيم ونهب الكثير من المقتنيات .....
ولكن قبل أن نشرع في الأمر نُعرج على جانبٍ جوهري مهمٍ هو الإنسان العراقي بشكلٍ خاص والإنسانُ على العموم ، فحياة الإنسان غالية وهذا ما نصت عليه الشريعة الإسلامية الغراء التى حرمت القتل وإسالة الدماء قال تعالى «أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا» ويقول الرسول «لَهَدْمُ الْكَعْبَةِ حَجَرًا حَجَرًا أَهْوَنُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ» فقد أرسى رسولنا الكريم مُحمدٌ (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) مبدأ حرمة الدماء فى الإسلام عندما خطب فى الناس خطبة الوداع قائلاً » فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ « فلو صدّقنا جدلاً آلة الإعلام التي تصف ما جرى ويجري في العراق حتى اللحظة بأنه (تحريرٌ) يعصف بالبلاد والعباد منذ أكثر من عقدٍ من الزمن ، تحرير أتى بقمعٍ وظلمٍ واستبداد ٍ أكبر ، تحريرٌ هُجّر فيه أهل العراق إلاّ ما رحِم ربي ، تحريرٌ قسّم المُقّسم وجّزّء المُجّزء ، تحريرٌ إضمحلت فيه الحضارات وتلاشت بوادر الحياة مع تهميش وإقصاءٍ للبشر والشجرِ والحجر ، تحريرٌ كّرس الطائفية والإثنية والعِرقية والقومية الشوفينية ....تحريرٌ أتى على الغض والقضيض وعلى الأخضر واليابس ، تحريرٌ أسلم مقدرات مدننا إلى الإرهاب الذي لا يُبقي ولا يذر ، تحريرٌ سالت فيه بحارُ الدماء ولمّا تجف دون أن يحرك الأمر ضمير العالم ودون أن يرمش له جفن ليستنكر أو يشجب على أكبر تقدير.....
عودة ٌ على بدء فقد نشرت صحيفة الجارديان البريطانية فى نيسان (إبريل) 2003 تقريرًا مطولًا تحدثت فيه عن ذهاب موظفي (متحف الموصل) إلى عملهم فى صباح أحد الأيام ليجدوا أن محتوياته لا وجود لها...؟؟؟!!!
نعم لا وجود لمقتنيات متحف الموصل فقد تم نهبها أثناء الليل من قبل (أبطال تحرير العراق من الغزاة الأمريكيان ومن دار في فلكهم) وكان اللصوص يعلمون جيدًا ماهية مقتنيات المتحف لذلك لم يستغرقوا أكثر من 10 دقائق استولوا فيها على تماثيل تقدر بملايين الدولارات يأتي على رأسها تمثال لملك بارثيني عمره 2000 عام اختفى من واجهة عرضه الزجاجية ، ووجد العاملون عشرات التماثيل المحطمة لطيور وآلهة أسطورية ، فالآثار الحقيقية تم تهريبها لتركيا وقطر لتحط الرحِال في المتاحف العالمية بما فيها إسرائيل ولعل مواقع الإنترنت نشرت رُقَم أو ألواح التوراة التي وصلت هناك معللين الأمر أنه تم شرائها بــ53 مليون دولا$ فقط وهي تخصهم إذن آثار متحف الموصل سُرقت وبيعت خارج بلاد الرافدين........
هنا نود القول أن كافة الآثار التي تهاوت عليها معاول ومطارق داعش نُسخ مُقلدة باحترافية مصنوعة من الجبس (الجص الأبيض) يعود تأريخ صناعتها إلى 50 عام مضت وصاحب الملاحظة الدقيقة يقيناً أدرك أنها بيضاء اللون من الداخل والخارج أضف إلى ذلك النسر الذي ظهر مُفرِداً أحد جناحية يعود إلى سنطروق وحضارته المُشيدة في مدينة الحضر الصحراوية جنوب الموصل 120 كلم ولعل التمثال الأشهر في حضارة الحضر هو لإبنة ملك الحضر الشابة التي تضع يدها اليُسرى على صدرها وترفع اليد اليمنى بوضعٍ يشبه السلام وقد تناقل التأريخ كيف أنها غدرت بأهلها بعد أن وقعت في غرام قائد الجيش الفارسي المُحاصر لمدينتها وأهلها بعد أن أبصرته من نوافذ القصر (الذي زرناه في طفولتنا وصبانا مراراً وتكرارا) لتخرج عليه عبر الأنفاق السرية وتُدخله باحة القصر لينتهي الأمر بتقتيل أهلها وزوال مُلك تلك الحضارة ومصرعها على يد القائد الفارسي الذي قال لها قبل أن يقتلها : (مَنْ غدرت بأبيها الذي كان يصنع لها الوسائد من ريش النعام فإنها لن تكون وفية لمن غزا أهلها ودثرها بأغطية الوبر والصوف...) ما يهمنا هنا أنها نسخ مقلدة باحترافية وضعت فى المتحف بلا اكتراث أو خوف عليها ....والسؤال هنا مَنْ يضمن عودة النُسخ الأصلية من أيدي من وصلت إليهم عبر (المحررين الأميريكان وسماسرتهم من أبناء البلد) ...؟؟؟!!!
يقيناً أن أهل نينوى تقطرُ قلوبهم دما ً وتملئ صدورهم الحسرات على ضياع ذلك الإرث التأريخي العظيم المُمْتد لحقبة أكثر من 800 سنة قبل ميلاد السيد المسيح (عليه السلام) وقد تواترت الأنباء عن قيام مسلحي تنظيم (داعش) بهدم أجزاء كبيرة من بوابة نركال التأريخية شرق الموصل وآثار وصروح تأريخية في ناحية النمرود جنوب المدينة كما تم تفخيخ ما تبقى من بوابة نركال تمهيداً لتفجيرها فالبوابات العملاقة والتماثيل الضخمة فهي حقيقية بالطبع ومن الصعب نقلها أو تقليدها ، خاصة بعد أن رأينا كيف حفرت آلات القطع (الكوسرات) أخاديد في الثور المجنح ولا نعلم هل لتقطيعه وبيعه أم لتدميرهِ ولكن لو كانت الغاية التدمير لتم الإكتفاء بالتفخيخ وهم من يبرع في هذا المجال .... من هنا يتبين لنا أن فكرة نجاة مقتنيات متحف الموصل حقيقة دامغة متى ما توفرت الإرادة الوطنية الهادفة إلى إعادتها حيثُ رحابها خاصة ًوأن مكان الكثير في المتاحف العالمية ومكان البقية الأخرى مجهول ، إلا أن الحقيقة الساطعة أنها ليست التى ظهرت فى التسجيل الذي بثه تنظيم (داعش) ختاماً نقول لكل من بكى وتباكى على ما حّلّ بإرث بلاد الرافدين أعلموا أن دماء أهل العراق أعزّ وأغلى وأقدس ....
اللهم إحفظ العراق وأهل العراق
مقالات اخرى للكاتب