أخبر الجنرال شارل ديغول خلايا المقاومة في الجنوب الفرنسي أن صندوقا صغيرا فيه اشياء تهم فرنسا برمتها وعليهم تأمين وصولها الى قرية نائية وآمنة حتى لايقع بيد الجنود الألمان .
المقاومون تخيلوا ان الصندوق المهم يحتوي على خطط عسكرية واختاما مهمة تهم مجلس المقاومة الفرنسية ، وفي الحقيقة ان الصندوق الصغير لايحتوي سوى الى حاجيات كانت تهم القائد الفرنسي نابليون بونابرت ومن بينها منديل عطاسه حيث كان يعطس كثيرا عندما يتحسس فمه رائحة دخان البارود وهو يقف خلف كتائب المدفعية يعطي ايعازات الرمي لرجالها.
كان ديغول يعتقد أن هذا الارث هو من بعض مستلزمات المعركة وعليه ان يحافظ عليه مثلما فعل الكثير من رجال المقاومة وخبئوا الكثير من كنوز اللوفر .
منديل نابليون وصل الى مكان آمن لانه بالرغم من انه منديل للعطاس ولكنه يرتبط بأنف رجل كانت له في تاريخ البشرية والتاريخ الفرنسي هيبة ووجودا ابتدأه من كونه ضابط مشاة شجاع الى امبراطور لفرنسا .
أضع قصة المنديل واعتباره كأرث وطني أمام قرار غريب اتخذته الأمانة و( الأمينة ) بعدم اعتبار بيت الوزير والاقتصادي العراقي ( يهودي ) الديانة حسقيل ساسون ( 17 آذار 1860 ــ 31 آب 1932 ) بيتا تراثا وتم تسليمه الى مستثمر سوف يهدمه وربما يبني بدله هوتيلا او مطعما للهمبركر او الماكدونالد ، وربما يجعله مطعم باجة او فلافل وبذلك نقضي على واحدة من واجهات الجمال البغدادي والمعماري الاصيل الذي كان ينعش ضفاف دجلة وصباحات شارع الرشيد برؤى خيال الذكريات التي تمتزج برائحة القهوة القادمة من مقهى البرازلية .
لا أدري كيف يعطى بيت يرتبط بذاكرة رجل منح العراق الكثير من علمه وهو رائد السياسة الاقتصادية في العراق الحديث وأول وزرائها .
كيف قبلت وزارة الثقافة المجهدة بالتعب والبيروقراطية وقلة الموازنة أن تتخلى عن موروث جميل يهم الطرز الاثارية في البناء والعمران .
وكيف قبل البنك المركز العراقي ووزير المالية ان يهدم بيت اول وزير مالية وكان الأجدر أن يتحول البيت الى متحف أو دارٌ للانشطة التراثية البغدادية حتى يكون هذا حافز للامانة وتعيد احياء الشرفات الجميلة لابنية شارع الرشيد والتي بدأت تتآكل شيئا فشيئا.
نحن نحارب داعش ( نعم ) وتلك مهمة وطنية مقدسة ، لكننا ينبغي ايضا ان نحارب اؤلئك الذين يتعمدون بالتفريط بجماليات المكان البغدادي المتمثل بأبنيته التراثية في شارع الرشيد والبتاوين وغيرها من الامكنة.
أشعر أن منديل نابليون كان يهم الذاكرة والجمال والارث الفرنسي ، وبمقدار الاحساس لو كان لحسقيل ساسون منديلا لكانت الدعوة قائمة للحفاظ عليه ، ولكن المسألة الآن تمثل البيت الرجل الذي لايملكه الآن ولا يملكه ابناؤه واحفاده بل تملكة الدولة فتهبهُ الى مستثمر ربما لم يتأمل في حياته لوحة تشكيلية معلقة في جدار .
طبعا سيهدم البيت وسيبيع طابوقه الأثري ( الجف قيم ) الى اناس سترمم به بيوتها او تغلف به اسيجتها حدائقها.
تهديم بيت وزير ( يهودي ) طيب ولد على ارض العراق وتوفى على ذات الأرض ، هذا الفعل في القياس الوطني أهدار وتعسف وأصرار على أن من يؤتمن للحفاظ على جمال بغداد وتراثها غير جدير بذلك.
بين منديل نابليون وبيت ساسون رؤية مهمة لتعامل بلدين من أرثهما . تلك الرؤية يُحسبُ لها في فرنسا أنها مهمة عظمى ويُحسبُ لها في العراق أننا منشغلون بأهم منها........!
مقالات اخرى للكاتب