بقلم| عبد الرحمن جمال
لا يخفى على أحد التدهور الذي مر فيه العراق منذ 2003 وإلى يومنا هذا، فقد طال الخراب كل شيء: الماء والإنسان والحيوان والهواء والنبات بما فيها الأرض التي عانت من قطع الأنهر إلى هجرة الفلاحين وبيع بساتينهم أو تركها إلى التجاوزات الجائرة غير القانونية التي تقوم بها الحكومات المتعاقبة من تجريف البساتين وحرقها، وكم من مناطق خضراء خصبة دمرتها الحكومة بحجة التنقيب على آبار النفط، وكم من متنفذ في السلطة استخدم سلطاته الظالمة للاستيلاء على مساحات خضراء شاسعة لمصالحه الشخصية أمام الأنظار الحكومية المتواطئة مع هذه النماذج الفاسدة؛ ومع بشاعة هذه الجرائم إلا أنها ليست غريبة في بلد مثل العراق تعرضه ومازال للكثير من النكبات والانتكاسات بسبب حكوماته ونظامه السياسي الفاسد الذي يسعى بقوة إلى تجهيل المجتمع وقطعه عن تأريخه المشرق وحضاراته التي أذهلت العالم بابتكاراتها؛ ولكن ما يدعو للأسى والحزن هو أن أبناء هذا البلد ومستقبله وبالخصوص طبقة الشباب الواعي لا تقرأ ولا تتعمق في تاريخها وتاريخ هذه الأرض المتدهورة اليائسة اليوم التي يعيشون عليها ولا يعلمون أن هذه الأرض كانت في يوم ما هي المهد الأول للزراعة وحراثة الأرض.
ولو تجولت معي أيها القارئ الكريم في أروقة الماضي متجردا مما حولك لتذهب بذهنك ووجدانك بعيدا مع أولئك الأجداد الذين مهدو لقيام الحضارات بإحدى اكتشافاتهم، ألا وهي الزراعة، لنعرف كيف كانت الزراعة في بداياتها وما هو دور الأنسان العراقي في اكتشافها وما الأدوات التي استخدمها.
وقبل ذلك لا بد أن نعرف أن الزراعة ظهرت للمرة الأولى في حدود 10000_12000 ق.م، في عدة مواقع من شمال العراق في (كهف زرزي ومناطق بالي كورا وزاوي جمي وملفعات وكريم شهر) فظهرت في هذه الأماكن بدايات الزراعة أو كما أطلق عليها العلماء (الزراعة البرية) وهي أول زراعة عرفها الإنسان، ونعني بها أن يراقب الإنسان مجموعة من النباتات تنمو في مكان معين ومن حال نفسها دون تدخل في عملية الزرع أو السقي، وإنما دور الإنسان هو تحديد المكان ومراقبته بين الحين والآخر. وأول من عرفها هم أجدادنا القدماء في أرض الرافدين وهي أول أنواع الزراعة.
ثم تطورت بعد ذلك في العصر الحجري الحديث 8000_7000 ق.م واكتشفت الزراعة بالشكل الذي نعرفه اليوم في قرية جرمو العراقية التي تقع في ثنايا تل مرتفع يقع شرق مدينة جمجمال شمال العراق بحوالي 50 كم. ومن هنا بدأ العصر الحجري الحديث (نيوليت) حيث قام الإنسان بنفسه بزراعة فصائل مختلفة من القمح والشعير والدخن والحنطة النشوية ونباتات العدس وغيرها.
أما الأدوات التي ابتكرها الإنسان العراقي في العصر الحجري الوسيط فهي أدوات الدق والسحق والهاون والرحى ثم المحراث والمسحا وغيرها. وكانت لهذه الآلات الزراعية أهمية كبيرة عند الإنسان الرافديني، وجاءت هذه الأهمية من خلال الصفة الدينية لبعض هذه الآلات بتمثيلها رموزا لعدد من الآلهة، فمثل المحراث رمزًا للإله شمش والإله ننورتا، والمسحاة رمزًا للإله شمش، والمجرفة رمزا للإله مردوك، والفأس رمزا للإله أدد.
هكذا كنا وكانت أرضنا خصبة ومعطاءة قبل 10 آلاف سنة فماذا جرى لها؟!
وعن ذلك يقول شاعر القرنين ونهر العراق الثالث عبد الرزاق عبد الواحد:
فماذا جرى للأرض حتى تبدلت
بحيث استوت وديانها وشعافها
وماذا جرى للأرض حتى تلوثت
إلى حد في الأرحام ضجت نطافها
وماذا جرى للأرض كانت عزيزة
فهانت غواليها ودانت طرافها