كنت أظن ان البحوث الانسانية ستأخذ موقع الصدارة من بين البحوث مختلفة التخصصات التي قدمت لمؤتمر نظمته إحدى الكليات الأهلية الجامعة، لاسيما ان من بين تلك البحوث ما يتناول عقدا مفصلية في حالة العراق الراهنة، واذا بي أجد بحوث العلوم الطبيعية وقد خصصت لها الجلسة الصباحية التي يكون فيها الجميع في أوج نشاطهم الذهني من باحثين ومتلقين، فيما جاءت البحوث الانسانية في جلسة بعد الظهر، وتحديدا بعد تناول وجبة الغداء التي تتسم في الكليات الأهلية بسعراتها الحرارية العالية، فلا تجد بعدها في قاعة القاء البحوث سوى نفريعدون على أصابع اليد جاء حضورهم في سياق المجاملة وعدم احراج الباحثين، وتحسبا من اعتذار بعضهم لخلو القاعة من الجمهور .
بيت القصيد ليس في الجمهور الذي يحضر الفعاليات العلمية، كما لست في معرض بيان أهمية مجال علمي على آخر، فالعلوم جميعها متساوية من حيث الأهمية، لكن ذلك ذكّرني بأمر مهم عندما كنت مسؤولا في إحدى صحفنا المحلية في مطلع عام 2008عندما زارني أحد مدراء المستشفيات في مكتبي بالجريدة،فسألته عن عدد الوفيات بمرض السرطان الذي خصصوا له مبالغ مالية طائلة لاستيراد الاجهزة الطبية وغيرها من مستلزمات، فأجابني بأن العدد يقرب من 500 مريض، في هذا الأثناء كان أحد مراسلي الجريدة قد اعد تقريرا صحفيا عن أعداد ضحايا العنف الطائفي في محافظة ديالى الذي بلغ بحدود 11000 أحد عشر الف ضحية، كما ترون ان الفرق بين الاثنين كبير ومرعب، وان ضحايا العنف الطائفي في غالبه من الشباب، بينما حصاد السرطان ليس بالضرورة ان يكون كذلك، وهنا نتساءل، اذا كانت النتائج بهذا الشكل، فأيهما أحق بالاهتمام؟ فالسرطان مرض فسيولوجي والطائفية مرض اجتماعي، سبب الاول تراجع الرعاية الصحية التي يتلقاها الفرد من الدولة وعدم اهتمامه بصحته، والثاني مرض اجتماعي مبعثه ضعف التنشئة الثقافية التي تقوم بها مؤسسات التنشئة الاجتماعية وأولها وأساسها المدرسة، وكل ما عداها عمل عشوائي غير مبرمج يعتمد على مستوى وعي من يقوم به واجتهاداته الشخصية، أظن ان مظاهر هذين المرضين ونتائجهما وأمثالهما من الأمراض الاخرى، تفترض ان يكون حجم التخصيصات المالية للمرض الاجتماعي اضعاف ما لمرض السرطان، بخاصة ان الاول يصيب المجتمع، بينما الثاني يصيب افرادا فيه، فضلا عن ان للأول تداعياته السلبية غير المحدودة على الدولة بمختلف مجالاتها، بدلالة انه بسبب الطائفية ومخلفاتها كالمحاصصة والتوازن وعدم الثقة والاستنجاد بقوى أجنبية يعدها البعض صديقة او شقيقة جعل الدولة تراوح مكانها منذ عقد ونيف على عملية التغيير السياسي في عام 2003.
ان حقيقة أهمية العلوم الاجتماعية بوصفها الأكثر تأثيرا في راهن الواقع العراقي أدركها العقل السياسي متأخرا، ولا يمكن ان نصف ذلك الادراك بالعميق، بل كان سطحيا، وعبر عنه باعتراف عابر ولم يترتب عليه اجراءات علمية حقيقية، بخاصة وقد مضى على ذلك الاعتراف سنوات عديدة عندما قال الدكتور ذياب العجيلي وزير التعليم العالي الأسبق في محاضرة له نظمتها مؤسسة المدى للاعلام والثقافة والفنون آواخر عام 2008 : (في هذه السنوات فقط أدركت أهمية العلوم الاجتماعية)، ربما نجد العذر للرجل في تأخر ادراكه بحكم اختصاصه الذي يندرج ضمن العلوم الطبيعية، ولم تكن له خبرات سياسية سابقة بأستثناء توليه منصب وزارة التعليم العالي، ومع ذلك لم تتخذ لا في ولايته ولا في ولايات من أعقبوه ما يقتضيه هذا الادراك من سياسات، لا على مستوى التعليم العالي ولا على مستوى الدولة في كيفية التصدي للظاهرة الطائفية التي بلغت أوجها في أعوام 2006 ــ 2007 وخفتت مؤخرا، لكن هذا الخفوت لا يلغي امكانية تجددها مع أجيال قادمة لم تذق لوعة ومرارة الطائفية.
والمضحك في الأمر ان جلسة مؤتمرنا الصباحية التي حدثتكم عنها في بداية مقالي هيمن عليها سياسيون كبار وصارت استعراضا للخطب الرنانة التي تتهيأ لصراع الانتخابات القادم، ورمي العلم خلف الظهور، عفوا بعد وجبة الغداء.
مقالات اخرى للكاتب