لا أحد يستطيع أن يراهن على «من ومتى وكيف ولماذا» في تسوية الخلافات بين الكتل السياسية العراقية التي تتطلع إلى منصبي رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء؛ فهذا هو الشهر الرابع منذ إجراء الانتخابات النيابية وشغور المنصبين السياديين «رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء» تحت لافتة تصريف الأعمال.
وقد اعتاد العراقيون طوال ما بعد الاحتلال الأميركي أن تظل «منازلة المناصب» بين المكونات والكتل والأحزاب على «شفا حفرة»، إلى أن تتدخل إيران في شخص رئيس «فيلق القدس» قاسم سليماني في اللحظة الأخيرة لحسم الموقف.
أمَا وقد رحل سليماني غير مأسوف عليه من الميدان بعد اغتياله في أوائل عام 2020 بطائرة مُسيّرة أميركية، فقد افترق من افترق وانسحب من انسحب وتوحد من توحد، ودارت عجلة الروليت بمن وافق ومن اعترض ومن رفض ومن اغتيل. اختلطت الأمور وتغيرت التحالفات وتوسعت الثغرات، بحيث لا يستطيع أي سياسي أن يتنبأ غير ابن الشارع الذي يُعبر عن الحل الوحيد المتكرر في الانتخابات الماضية، وهو «إبقاء الحال على ما هو عليه». أي لا أحد ينتصر ولا أحد ينهزم، وكل الأوراق مكشوفة ولا جديد تحت النخيل.
الخاسر الوحيد في كل هذا «الخضم» هو الشعب العراقي الذي يتطلع بعد عقدين قاسيين من الاحتلال الأميركي والتدخل الإيراني إلى استعادة وطنه وسيادته وحقوقه، بلا جدوى ولا تغيير.
لقد فعلها القيادي الشيعي مقتدى الصدر وحصد أكثرية المقاعد النيابية بين المرشحين متجاوزاً أحزاباً عريقة وكتلاً مدعومة وكيانات عنصرية أو طائفية. وهو يبحث منذ أسابيع عن مقاعد أخرى تنضم إلى مقاعده أو تتحالف معه. صحيح أنه نجح في ترتيب تحالف شيعي - سني - كردي، لكن لم يستطع حسم الأمر بانتخاب رئيس الجمهورية الكردي ولن يستطيع تسمية رئيس الوزراء بالسهولة التي تم فيها انتخاب الرئيس السني لمجلس النواب. الحسابات تختلف وتتقاطع وتتشابك وقد تصل إلى الجملة الشهيرة في الأفلام السينمائية العربية «المكان كله محاصر»!
حاول قائد «فيلق القدس» الحالي إسماعيل قاآني في أكثر من زيارة إلى بغداد وأربيل والنجف أن يفعل ما فعله سليماني سابقاً، وهو التهديد والوعيد، لمن يرفض الحل الإيراني، لكنه فشل ولم يجد أذناً صاغية إلا في «الإطار التنسيقي» الذي يترأسه نوري المالكي. غير أن إيران والعراق والعالم المهتم يعرف جيداً أن المالكي ورقة خاسرة في أي عملية سياسية ترقيعية، بل إنه كان سبب كل الإخفاقات التي مُنيت بها العمليات السياسية السابقة منذ توليه السلطة رئيساً للوزراء في ولايته الأولى، حسب ترشيح بول بريمر الحاكم المدني الأميركي للعراق، إلى هزيمة قواته العسكرية أمام تنظيم «داعش» الإرهابي. وعلى نفس الخطى سار حيدر العبادي وعادل عبد المهدي.
ومصدر قوة المالكي وتشبثه بالعودة الى الحكم بنفسه، أو بمن يمثله، هو «الحشد الشعبي» وميليشياته الموالية لإيران التي تخضع إلى «فيلق القدس» خضوعاً أعمى بلا أي تحفظ. الآن دخل على الخط المرشد الإيراني علي خامنئي بنفسه، وقيل إنه «قطع الطريق بشكل نهائي» على أي تقارب محتمل بين زعيم التيار الصدري وهادي العامري زعيم «تحالف الفتح». وتسربت معلومات من داخل «الإطار التنسيقي» الشيعي أن خامنئي تلقى رسالة غير متفق عليها تدعوه للتدخل بمنع أي انشقاق عن «الإطار» للتحالف مع الصدر وتحقيق «الكتلة الأكبر» لتشكيل الوزارة الجديدة.
وإزاء «الفيتو» الذي رفعه مقتدى الصدر ضد المالكي، فإن الأخير رفع شعار «الثلث المعطل» على الطريقة اللبنانية التي يتبناها حزب الله لتعطيل أي قرار يتخذه مجلس الوزراء أو مجلس النواب. وبالتالي، فإن الجميع يصابون بالشلل السياسي المقترن بالفشل في إدارة الدولة، وهو أمر غير مستغرب وتسعى إليه إيران.
ولم يعد من غرائب الأمور وعجائبها أن يدخل قائد «فيلق القدس» الإيراني قاآني إلى العراق ويقابل من يقابل من زعماء سياسيين وميليشيات من دون أن يهتم بإجراء أي لقاء مع رئيس الوزراء العراقي أو أي مسؤول في الدولة العراقية. ولا أحد في السلطة الرسمية يسأله ماذا تفعل في العراق؟ وكيف تسمح لنفسك بإجراء لقاءات مع سياسيين عراقيين ورجال دين؟ ومن خوّلك أن تتنقل بين بغداد والنجف؟ وهو لم يكلف نفسه عناء مقابلة وزير الخارجية أو وزير الداخلية أو رئيس مجلس النواب. يدخل ويخرج متى شاء من دون حسيب ولا رقيب، كأن العراق مدينة أو ولاية إيرانية.
كان قائد «فيلق القدس» السابق قاسم سليماني يعقد اجتماعات مع المرشحين السياسيين للمراكز العليا في الدولة ليختار من يلبي كل طلبات إيران السياسية والعسكرية والمالية والاقتصادية من دون أي اعتراض أو تحفظ. لقد ورث قائد «فيلق القدس»، كما يبدو، صلاحيات الحاكم المدني الأميركي السابق بول بريمر الذي كان يشكل الوزارات ويعين السفراء ويعبث بأموال العراق وثرواته وقصوره ومعسكراته ومدنه كيفما يشاء.
ولم يكفِ ذلك التدخل السافر من قبل قائد «فيلق القدس»، فخرج خامنئي من صومعته ليرسل توجيهاته ورسائله إلى «الإطار التنسيقي» الموالي له، كأن البلد جزيرة منعزلة في المحيط لا أبواب لها ولا مسؤولين ولا صلاحيات يسرح فيها ويمرح كما يشاء.
كيف يسمح لهؤلاء المتسللين بدخول العراق كيفما ومتى يشاءون؟ وأين أجهزة الدولة الأمنية؟
العراق وسوريا ولبنان واليمن دول أعضاء في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية واليونسكو واليونيسف والهلال الأحمر ومنظمة الأغذية والزراعة، ومنظمة العمل العربية والمنظمة الدولية للطيران المدني والمنظمة العربية الدولية والاتحاد الدولي للمواصلات السلكية واللاسلكية ومنظمة التعاون الإسلامي... والإنتربول. وفي الواقع يجب إبلاغ الإنتربول قبل أي منظمة عالمية أخرى بالاعتداءات الإيرانية الجنائية على هذه الدول الأربع.
العراق ليس من ممتلكات بلاد فارس، ولا من إرث كسرى ورستم وأردشير وسابور وهرمز وكورش وقمبيز وداريوس ومحمد رضا بهلوي؛ لكي يتسلل إليه سليماني (سابقاً) وقاآني لاحقاً في غفلة أو غفوة من حرس الحدود والمطارات، لعقد اجتماعات مع كبار السياسيين العراقيين من عملاء إيران وتوجيههم علناً أو سراً بعلم الحكومة العراقية أو جهلها أو تجاهلها.
للأسف، لم نسمع كلمة واحدة من الرئاسات الثلاث لرفض هذه الزيارات المشبوهة، التي تُعد تدخلاً سافراً ووقحاً ورخيصاً في الشؤون الداخلية والسياسية والسيادية للشعب العراقي ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية. لقد وصل الأمر إلى تدخل إيران في التقسيمات الإدارية للمحافظات العراقية وترؤس عسكريين إيرانيين لاجتماعات عراقية ميليشياوية وحتى دينية.
لقد «تطورت» الدبلوماسية بين البلدين الجارين ووصلت إلى توجيه «إنذار» إلى مقتدى الصدر بورقة «عودة داعش» إذا لم يتحالف لحكم العراق مع الكتل الشيعية الأخرى بزعامة المالكي، مع أن الصدر أعلن مراراً وتكراراً أنه لن يسمح بعودة المالكي إلى السلطة. العراق ليس مُلكاً لإيران ولا أي دولة ولا أي طائفة أو تكتل أو إقليم.
مقالات اخرى للكاتب