في هذه السطور أسلط الضوء على نظام الأطروحات الذي يمثل الهوية الحقيقية لفكر الشهيد محمد الصدر (قدس) وهو نظام فكري متكامل منقطع النظير متعدد الاشكال والأساليب يعود الفضل في تأسيسه الى الشهيد محمد الصدر (قدس) في منتصف القرن الماضي!!!!!
وقد عالج نظام الأطروحات مشاكل مستعصية في الفكر الأنساني والإسلامي على حد سواء...
والشئ المهم الذي أريد بيانه للقارئ الكريم أن هذا النظام له ثلاثة أساليب مختلفة متنوعة كل أسلوب يعطي للإطروحة معنى خاص بها وهذه الأساليب هي:
الأسلوب الأول: الأطروحة بمعنى الأحتمال.
الأسلوب الثاني: الأطروحة بمعنى الظن.
الأسلوب الثالث: الأطروحة بمعنى اليقين.
ولابد من توضيح مختصر لكل أسلوب وعلى الله التوكل...
الأسلوب الأول: ويمكن تلخيصه بجملة (إذا دخل الإحتمال بطل الإستدلال)
إن هذا الأسلوب يعتمد بصورة أساسية على الأحتمال في تمحيص أي إستدلال... وتمييز الإستدلال الصحيح من الباطل.. لأن الإستدلال الصحيح لابد أن يكون منتجا لليقين... وأي أستدلال لا تكون نتيجته يقينية فهو إستدلال باطل وغير صحيح!!!!
إن اليقين هو ترجيح تام لأحد طرفي النفي أو الإثبات على الطرف الآخر...
فعلى سبيل المثال: (العراق بلد عربي) وهي جملة مثبتة (وبتعبير المناطقة قضية موجبة) وهي قضية يقينية يعني أن طرف الاثبات راجح بنسبة 100% على طرف النفي... وطرف النفي هو (ليس العراق بلدا عربيا) إن نسبة هذا الطرف تعتمد على نسبة الطرف الآخر,, وحيث أن نسبة طرف الأثبات في هذه القضية هي 100% فإن نسبة طرف النفي يكون 0% .. يعني طرف النفي في هذا المثال غير محتمل...
المثال الآخر: (ليس العراق بلدا أفريقيا) وهذه جملة منفية (قضية سالبة على حد تعبير علماء المنطق) وهي قضية يقينية يكون فيها طرف النفي راجحا ترجيحا تاما بنسبة 100% على طرف الإثبات (العراق بلد أفريقي) وفي هذا المثال يكون هذا الطرف غير محتمل...
وهنا يأتي دور الأطروحة (الإحتمال) في تمحيص الإستدلال, فإن دخول الأحتمال على الطرف المرجوح يؤدي الى بطلان الإستدلال لأن نسبة الطرف المرجوح هو 0% أما في حالة دخول الإحتمال وجوازه فسوف تكون نسبة هذا الطرف على أقل تقدير 1% مما يؤدي الى نقصان الطرف الآخر بنفس النسبة فيكون 99% وهذه النسبة لا تمثل يقينا بل هي درجة من درجات الظن فيكون الإستدلال باطلا!!!!
وكلما زادت نسبة إحتمال الطرف المرجوح نقصت نسبة الطرف الراجح فلو كانت مثلا نسبة الإحتمال في الطرف المرجوح 30% كانت نسبة الطرف الراجح 70% وهذه ايضا درجة من درجات الظن وهكذا أما في حالة تساوي الطرفين (النفي والإثبات) فهذا هو الشك بعينه... ولذلك قسم علماء المنطق العلم التصديقي الى يقين وظن فالعلم التصديقي هو ترجيح طرف على الطرف الآخر فإذا كان الترجيح تاما كان يقينا وإذا كان الترجيح ناقصا كان ظنا....وقد إستغل السيد الشهيد محمد الصدر (قد) هذه الحقيقة خير إستغلال وبرهن من خلال هذا الأسلوب من نظام الأطروحات على أهمية الإحتمال بالرغم من كونه لايمثل علما(يقينا أو ظنا) ولكنه صالحا ونافعا في إبطال كل إستدلال مزعوم... وقد دافع الشهيد الصدر الثاني (قد) عن الإسلام والقرآن دفاعا عظيما من خلال هذا الأسلوب...
الأسلوب الثاني: إن هذا الاسلوب من إكتشافات وإبداعات الشهيد محمد الصدر(قد) ويكشف بوضوح عن المستوى العلمي الرفيع الرائع الذي وصل إليه الشهيد محمد الصدر(قد)...
إن العقل البشري كثيرا ما يواجه صعوبات تحول دون تحصيله لليقين بسبب فقدان الدليل لأن الدليل هو علة اليقين...
وفقدان الدليل وندرته أدى الى نشوء فجوات علمية وثغرات فكرية في كل العلوم الطبيعية والإنسانية وغيرها من مجالات المعرفة...
وقد عالج الشهيد محمد الصدر (ق) عن طريق هذا الأسلوب من نظام الأطروحات حيث أن الأطروحة هنا بمعنى الظن وليس مجرد إحتمال وقد طبق السيد الشهيد (قد) هذا الأسلوب في الموسوعة المهدوية عن طريق تقديم الأطروحة أو مجموعة من الأطروحات تقوم مقام الدليل في حال فقدانه وندرته وحسب فهمي أن السيد الشهيد (قد) إستفاد من علم أصول الفقه في حل هذه المشكلة وهو أول عالم قام بتطبيق علم الأصول في مجالات علمية خارج أسوار علمي الفقه والأصول وكانت النتيجة هي هذا الأسلوب الفكري الرائع من نظام الأطروحات الذي ساهم بشكل كبير في سد الكثير من الفجوات المعرفية وقد طبق السيد الشهيد محمد الصدر (قد) هذا الأسلوب في الكثير من مؤلفاته كالموسوعة المهدوية وغيرها...
الأسلوب الثالث: إن هذا الأسلوب يرتبط إرتباطا ذاتيا بالشهيد محمد الصدر (قد)...
فالأطروحة في هذا الأسلوب تختلف عن الأسلوبين الآخرين وهي تمثل درجة من درجات اليقين لأن درجات اليقين لا متناهية وكل درجة تمثل إطروحة بمعنى أن ما يجزم به المجتهد المحقق هو بالنسبة للسيد محمد الصدر (قد) مجرد إطروحة فالشهيد الصدر (قد) كان يشير الى هذا المعنى من خلال دروسه العالية في الفقه والأصول والتفسير وغيرها لأنه في أكثر من درس قال موضحا عن مراده من الأطروحة هو ما ينتجه الدليل والدليل علة اليقين!!!
وأيضا يؤيد هذا المعنى أن الشهيد الصدر (قد) عندما يتعرض الى بيان نظريات كبار المحققين وبراهينهم الإستدلالية كان يسميها إطروحة وكان أيضا يسمى نظريته بالأطروحة بعد أن يقيم البرهان عليها ومن المعلوم أن الأستدلال البرهاني يقين وليس ظنا لأن البرهان هو اليقين بثبوت المحمول للموضوع عن طريق معرفة العلة في ثبوته له على حد تعبير السيد محمد باقر الصدر (قد) في كتاب الأسس المنطقية للإستقراء وهذا يبرهن على أن المراد من الأطروحة هو اليقين وإلا لا يصح إستعمال البرهان والإستدلال المثبت للإطروحة التي يتبناها المحقق!!!
وخير شاهد ودليل على أن المراد من الأطروحة في هذا الأسلوب هو اليقين ما جاء في مقدمة منهج الأصول حيث جاء ما نصه (فهذه ملخصات عمَا كنت ألقيته في الدرس الإستدلالي "الخارج" في علم الأصول,وهو لا يمثل كل ما ينبغي أن يقال بطبيعة الحال ,وإنما هو مجرد أطروحة أعرضها أمام فضلاء الحوزة) إنتهى.
وواضح أن الدرس الإستدلالي (البحث الخارج) يمثل برهانا ويقينا ولا يمكن أن يكون غير ذلك إطلاقا ومع ذلك عبر عنه بإنه مجرد إطروحة وهذا يدل بوضوح أن الشهيد الصدر الثاني (قد) قد إستعمل الإطروحة هنا بمعنى اليقين وليس الظن أو الإحتمال بل أكثر من ذلك أنه يؤكد على أن لديه درجات كثيرة من اليقين لأنه قال أن هذا الإستدلال لا يمثل كل ما ينبغي أن يقال أي أن هناك درجات من اليقين لم يصرح بها الشهيد محمد الصدر (قد) مكتفيا بهذه الدرجة العالية من اليقين التي عبر عنها في أكثر من مناسبة أي منهج الأصول بإنه دليل حسي على أعلميته المطلقة ومع ذلك أنه مجرد أطروحة ولايمثل كل ما ينبغي أن يقال بطبيعة الحال!!!
وقد إتضح من خلال إستعراض الأساليب الثلاثة لنظام الأطروحات أن الأطروحة لها قيمتها لا كما يزعم البعض لأن هذا الزعم يكشف عن جهل واضح لنظام الأطروحات بأساليبه المتعددة المتنوعة