في اكثر من مناسبة ومكان يحذر مصلحون ووجهاء واصحاب رأي ونصيحة من جر بيوت العبادة الى اجواء الضجيج والصراع السياسي، تلمسا لخطر قد لاتقدر نتائجه الكارثية في المستقبل.
فحين ابتذلت السياسة، وانحطت قواعد السباق نحو السلطة والهيمنة والجاه والثروة، وسقطت الستارة الشفيفة بين حدود الدين والسياسة، وبين المقدس وغير المقدس، واختلط الحابل بالنابل، والصحيح بنقيضه، والغث بالسمين، فقد جرّت هذه الاحوال الجامع والدعاة والمناسبات الدينية الى التنافس السياسي، وصار لكل زعيم سياسي جامع مؤمم، ولكل طامح سياسي واعظون متفرغون، ولكل حزب دربونة مقفلة، وانتشرت صور اللاعبين على الجدران التي لايصح ان تشوّه، وفي اروقة بيوت الله التي لايجوز ان تدنس، وتسلقت اسماء بعض اللاعبين باسقات المنائر في تزاحم مع اسماء الله الحسنى، فاينما تمدّ ناظريك ترتطم بوجه سبق ان طالعته على الشاشات الملونة، واينما تركن ظهرك تكون قد اتكأت على سخام شعارات بليت، ولم يعد احد يفرق بين الشعائر والشعارات، وبين الكسب والتكسب، وبين الدعوة للحلال والدعاية للحرام، وبين التحسّب والتحزب.
كل هذا مما عرفه الجميع وطفح به الكيل، بعد ان تمادى “الوعاظ” في العبور من فوق الخطوط المحرمة، واعتدوا على حقوق الناس بالتفضيل بين الخيارات والمشيئات، وبتحويل الاتباع من امة واحدة الى صفوف متناحرة، واختزال رسالة التوعية الى شحذ المكاره وغرائز الانتقام، وقد حذر من ذلك، بين وقت وآخر علماء ومصلحون ومراجع نأوا بانفسهم عن دائرة الشبهة، وارتقوا باسمائهم عن ظنة التواطؤ، ووقفوا على مسافة محسوبة من نفاق الساسة الذين وظفوا الدين والمذهب في ما لايصح ان يوظف، حتى ضاعت معاني الشراكة، واندحرت ومضات الحكمة، وتشكك اصحاب العقل في جدوى النصح، فلا احد يسمع، لأن صوت التجييش والتلميع والتحزب اقوى، ولأن المصالح تماهت في ما بين السطور المتراصة.
ان المطالبة بوقف تسييس المسجد، وبتفكيك خطوط التشابك بين الدين والتحزب، لم تعد ترفا فكريا، او رغبة بالمشاكسة والمزاحمة يختص بها دعاة العلمانية، أو ينفرد بها اصحاب الاتجاهات السياسية المدنية، بل صارت ضرورة تتصل بالسلم الاهلي وبموجبات نزع الاحتقان بين الديانات المتعايشة وبين الطوائف، بل وفي صفوف كل طائفة، بعد ان صار لهذا التسييس ضحايا، وامسى له منتفعون، وتكونت على هوامشه مصالح خارج الدين والاحكام الشرعية، واستطيع ان اتملى بان نداءات التحذير من هذا الاستطراد الخطير تنطلق من شرارة الشكوى التي تخرج من افئدة الملايين من جميع الاديان والطوائف، وربما من شريحة شعبية مدنية متنامية، تأمل ان لايصبح الدين سلعة للمتاجرة، وان يبقى الجامع ملهما للتقوى والاحسان والتعبئة نحو الفضائل، لا بازارا للسياسة، ولا مرآبا للسيارات المفخخة.
"ليست الأنانية أن يعيش الشخص كما يريد، بل أن يطلب من الاخرين ان يعيشوا كما يريد هو".
اوسكار وايلد- شاعر ومسرحي ايرلندي
مقالات اخرى للكاتب