ظاهرة الاختيار التي رزقها الله سبحانه وتعالى للإنسان سلاح ذو حدين (أما شاكرا وأما كفورا) ......لأن الاختيار الصحيح النافع يتوقف على الإدراك..والإنسان مزيج مركب من العقل والشهوة والغضب والحب والبغض ......حتى الإدراك عند الإنسان متنوع بين إدراك حسي وخيالي ووهمي وعقلي .ولا نحتاج إلى ادلة وشواهد تكشف خطورة ظاهرة الاختيار لأن الواقع المعاش في الحاضر والماضي يزخر بمليارات الشواهد التي تعطي لنا رؤية واضحة وجلية لظاهرة الاختيار بالنسبة للفرد والمجتمع والدولة....
فلو سلطنا الضوء على ظاهرة الاختيار عند صدام المقبور........
نجد إن الشعب العراقي وشعوب المنطقة كانت ضحية اختياراته الظالمة ...وما المقابر الجماعية وحروب الإبادة والاضطهاد إلا أمثلة لازالت حية في ذاكرة الملايين من المظلومين.
إن صدام يدافع عن اختياراته بل يعتبرها العدل بعينه!!!!
وليس صدام الوحيد الذي يدافع عن حماقاته بل عامة الناس أفرادا كانوا أو جماعات حتى الساسة ورجال الدولة فإنهم جميعا يدافعون عن اختياراتهم مهما كانت ظالمة وضارة ومفسدة لأنهم يعتبرونها عادلة بل هي الإصلاح في الأرض!!! والسر في ذلك أن الإنسان لا يشعر إلا بذاته فأتخذ إلهه هواه فأضله بمعنى إن اختياره أسير الأنانية والهوى والمصلحة الشخصية التي يدركها و يميل إليها ويتعاطف معها وفقا لسياسة النفس الأمارة بالسوء وهذا لا يعني إن ما يهواه يمثل مصلحة واقعية موضوعية وما يكرهه يمثل مفسدة حقيقية موضوعية وقد ورد في الدعاء (اللهم ارني الحق حقا فاتبعه وارني الباطل باطلا فأجتنبه ولا تجعله علي متشابها فاتبع هواي بغير هدى منك).
وكثيرا ما تتقاطع المصالح الموضوعية(العامة) مع المصلحة الشخصية فمثلا إشارة المرور وضعت لأجل تنظيم حركة السير لأربعة طرق متقاطعة وسالك احد هذه الطرق تقتضي مصلحته الشخصية الاستمرار في السير وعدم التوقف فإدراكه المسيس من قبل حبه للذات والانانية هو الذي يدفعه نحو اختيار السير وعدم اختيار التوقف الذي تقتضيه المصلحة العامة ويؤكد ذلك إن الإشارة المرورية لوحدها لا تكفي لضبط حركة السير وضمان عدم المخالفة ما لم توجد سلطة مرورية رادعة ..مع إن المصلحة العامة تقتضي التوقف والانتظار..إذن هناك الكثير الكثير من المصالح الموضوعية العامة التي تحتاج أن يتجاوز الفرد ذاته وأنانيته ...والفرد دائما (بحسب طبعه) يقدم مصلحته الشخصية على كل شيء وهذه الحقيقة تمثل مشكلة مستعصية لدى المشرعين وأرباب القانون الوضعي ولم تكلل بالنجاح محاولاتهم في حلها وعلاجها والسبب هو عدم التركيز على المحتوى النفسي للإنسان في سن القوانين وعلاج التناقض بين ما يقتضيه طبع الإنسان من حب الذات وما تقتضيه المصالح العامة من سلوك موضوعي يتجاوز فيه الأنانية فالقانون الوضعي أهمل الجانب النفسي الذي يكمن فيه التناقض وغيره من إرادة وإدراك وعاطفة وفطرة...الخ
أما الإسلام فهو دين الله (إن الدين عند الله الإسلام) الله الذي خلق الإنسان والكون وكل شيء وجعل للإنسان الاختيار ولكن الله لم يترك الإنسان مهملا بل جعل لاختياره قانونا يضمن له دائما الاختيار الموافق للمصالح الحقيقية الواقعية بما فيها المصالح العامة الموضوعية هذا القانون يتمثل بالشريعة المقدسة فالأحكام الشرعية مجعولة طبق المصالح والمفاسد الواقعية ومن المعلوم إن أحكام الشريعة تمثل أحكام العقل المطلق اللامتناهي فهي مرتبطة بعلم الله وإدراكه المطلق. إن الالتزام بأحكام الشريعة يعني الارتقاء بظاهرة الاختيار نحو التكامل بغض النظر عن المستوى الثقافي للفرد حتى الفرد الذي لا يقرأ ولا يكتب (الأمي)... بخلاف الفرد الذي يعصي حكم الشريعة فان مستواه الثقافي والعلمي الرفيع لا يشفع له في الارتقاء نحو التكامل في اختياراته فلو عصى البروفسور فقتل أو زنى أو سرق أو كذب او خان الأمانة او...او..الخ فهو أصبح أسير شهواته وهو لا يمكن أن يقارن مع الفرد الأمي الملتزم بأحكام الشريعة لان تدني المستوى العلمي للفرد الأمي لم يكن عائقا في تكامل اختياره ما دام قد ربط اختياره بالعلم الإلهي المطلق... ومن المؤسف جدا أن الكثير من المثقفين بمختلف مستوياتهم العلمية نجدهم يشربون الخمر ويزنون ويسرقون ويكذبون ويخدعون ويختلسون أموال الشعب .....الخ لأنهم غيبوا عقولهم وعلومهم وأطلقوا العنان لشهواتهم وأهوائهم وهذه دعوة أوجهها لهم باعتبار الإخوة التي تربطني بهم إلى طاعة الله طاعة حقيقية وترك المعاصي وهم أهل لهذه الطاعة بما لديهم من ثقافة وعلم وأدب وإبداع فرسالة الدين هي رسالة الخير والإصلاح والإبداع بل إن العصيان من أعظم العقبات التي تقف أمام كل عمل إبداعي خلاق ولنا في نبينا الكريم (ص)وعظمائنا وقادتنا المعصومين والصحابة الأخيار المنتجبين خير قدوة وأسوة فحياتهم كانت كلها طاعة لله فاستحقوا السعادة الدائمة في الآخرة والخلود في سماء الماضي والحاضر والمستقبل ..
إن الشريعة المقدسة لها الدور الرئيسي في تكامل ظاهرة الاختيار عند الإنسان فالعبادة تعالج المحتوى النفسي للإنسان في التغلب على التناقض والتعارض بين ما يقتضيه الطبع من حب الذات والاهتمام بالمصلحة الشخصية وما تدعو إليه المصالح العامة من سلوك موضوعي يتجاوز الفرد فيه الذات وقد وضح السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قد) في كتاب نظرة عامة في العبادات الدور الذي تلعبه العبادة في تربية الفرد على الموضوعية في القصد وتجاوز الذات كالزكاة والخمس والجهاد لما لهذه العبادات من تضحية بالمال والنفس تحقيقا لمصالح عامة وليس تكريسا للمصلحة الشخصية. إن الفهم الواعي للدين والتدين لابد أن يترفع عن النظرة القشرية التي تعتبر التدين منحصراً بلباس معين وشكل معين ومزاج معين اقرب إلى العصبية والتزمت وهذه النظرة القاصرة المقصرة يرفضها الإسلام جملة وتفصيلا وهذه النظرة القشرية هي تجني على الدين والتدين الحقيقي .إن الدين والتدين إصلاح حقيقي في الأرض وسلوك عادل وشعور بالمسؤولية تجاه المصالح العامة وتجاه أمن واستقرار حياة الناس ونجاحها...فالمتدين يكون دائما رحيما بالمؤمنين وشديدا على أعداء الله وأعداء الإنسانية...
إن الله لم يجعل الإنسان مختارا كي يكون جبارا في الأرض ومفسدا وظالما لنفسه وللناس بل هداه نحو الحق والعدل وضمن له التكامل من خلال ظاهرة الاختيار نفسها وقانونها المتمثل بالشريعة المقدسة ومن خلال ما وهبه الله من عقل وسمع وبصر وضمير وإرادة وفطرة حتى حب الذات فهو يمثل القوة الدافعة نحو التكامل لان حب الذات سوف يكون مع مصالحه الحقيقية في اليوم الآخر.....والإنسان يعيش في ذلك اليوم أكثر مما يعيشه في الدنيا.... يقول الشهيد السعيد محمد محمد صادق الصدر(قد) في الجمعة الثانية(وجودنا هنا مؤقت لا أكثر ولا اقل ؛مسألة رياضية جدا بسيطة نسبة المتناهي إلى اللامتناهي كم ؟ صفر ليس له قيمة).
إن إدراك حقيقة اليوم الآخر الذي يعتبر أصلاً من أصول الإسلام يجعل من حب الذات قوة دافعة نحو تحقيق المصالح العامة التي تأمر الشريعة بالسعي والعمل من اجل تحقيقها إن الدنيا مزرعة الآخرة فلا فوز في الآخرة إلا بإصلاح الأرض وإحيائها ونشر العدل في ربوعها ومحاربة الظلم والظالمين .... فهي مزرعة وليست محرقة يهلك فيها الحرث والنسل وبالتالي الشقاء في الآخرة.