كتب خالد جواد شبيل: قبل أكثر من عام وتحديداً في 13 /4/ 2013 استمعت الى محاضرة في المركز الثقافي العراقي في ستوكهولم للبروفسور الدكتور كاظم المقدادي، عن تلوث البيئة العراقية بالإشعاع مصادره ومخاطره وعلاجه...حيث استحوذ هذا الموضوع على اهتمام واسع من الجمهور وقد أبلى المحاضر بلاء حسنا في توضيح هذا الموضوع الهام وتذليل الصعوبات مستخدماً الوسائل التوضيحية ومتدرجا بالموضوع بسلاسة مستندا الى معلومات ميدانية وإحصائية ومستقيا الجانب النظري من أوثق المصادر العلمية، وكم منّيت نفسي أن تصبح هذه المحاضرة القيمة بين دفتي كتاب لتصل الى أوسع قطاع من القراء، من أجل رفع مستوى الثقافة البيئية وإدراك مخاطرأعتى أنواع التلوث وهو الإشعاعي وقد راح ضحيته أنفس بريئة من المواطنين لاسيما الأطفال والنساء... وها قد وقعت بين يدي نسخة ورقية من كتاب التلوث الإشعاعي في العراق ج1 للبروفسور المقدادي والذي كان نواته تلك المحاضرة، وكنت في نقدي لكتاب البروفسور مجيد القيسي عن اللغة البغدادية قد وعدت القاريء الكريم أن أتوقف مع كتاب أ.د. كاظم المقدادي عن التلوث الإشعاعي موضوع اليوم.
والبروفسور د. كاظم المقدادي، شخصية غنية عن التعريف، فقد عرفته كاتبا في قضايا الطب والصحة الوقائية في الصحف العراقية منذ بداية السبعينات، ورغم كونه طبيبا فقد برع في هذا المجال وزاد عليه تخصصا عاليا من جامعات عالمية مرموقة، وتجاوز نشاطه اختصاصه الى قضايا البيئة التي نشط في مجالها كاتبا مناضلا نضالا مركبا علميا وسياسيا فاضحا الأكاذيب من الغرب والتكتم من النظام السابق على مخاطر التلوث الإشعاعي الذي يعتبر أخطر أنواع التلوث وأكثرها فتكا بالانسان والحيوان والبيئة فهو القاتل الصامت الذي يتسلل بهدوؤ وبطء ،،، وتتسم كتابات المقدادي بالنزاهة العلمية والجرأة الادبية وقدرة كبيرة في تذليل المواضيع الصعبة وجعلها في متناول فَهم القراء..
وهذا هو الجزء الأول المخصص للتلوث الأشعاعي من اليورانيوم المنضب، مما يشي بأن جزءً أو أكثرً سيليه، قوامه 321 صفحة من الورق الصقيل عن دار فيشون ميديا-السويد، طبع بدعم من المركز الثقافي العراقي في السويد. لست بصدد عرض هذا الكتاب القيم الذي عرضه مؤلفه في مدخل الكتاب فأحسن العرض والتعريف بكتابه، موضحا أهمية وهدف كل مفصل، ويمكنني أن أقسّم الكتاب الى ثلاثة محاور رئيسة: المحور العلمي المحض المتعلق بالكيمياء الإشعاعية Radiochemistry وهو من المواضيع العلمية المحض Pure science ما ألزم المؤلف جهوداً إضافية لتبسيطه للقاريء غير المتخصص، حين قدم تركيزا على المصطلحات والمفاهيم المتكررة من قبيل أشعة ألفا و بيتا وغاما شارحا طبيعتها الجسيمية أو الموجية وتاثيرها الفيزيولوجي الاختراقي والآيوني على خلايا وأنسجة الأجسام الحية وما يترتب على ذلك من مخاطر حالية ومستقبلية مع توضيح بالصور والدايغرامات العلمية. كما بين طرق قياس الأشعة ووحداتها العلمية وأجهزة القياس، ومن المهم أن المؤلف بين مصادرهذا التلوث في السلم وفي الحرب..
أما المحور الثاني ويتمثل في عرض تاريخي مكثف لتاريخ التلوث الإشعاعي وارتباطه بالحروب أو الهجمات الخارجية على العراق، حيث توقف المؤلف على قصف المفاعل النووي العراقي "تموز" في التويثة من قبل الطيران الاسرائيلي عام 1981 ولم تعرف مخاطر التلوث حيث تستر النظام وحذر الأطباء وأجهزة الإعلام من مغبة كشف أو تسريب أي معلومات عنه. ومع حرب الخليج الثانية عام 1991 يسجل التلوث قفزة عالية لا يمكن إخفاؤها حيث قصف مفاعل "لاما" في التويثة تدميراً تاما لمختبراته ووقوده المشع ما تسبب في كارثة حقيقية اضطر رئيس الطاقة الذرية العراقية وقتذاك في مؤتمر الطاقة الذرية العالمية المنعقد في فينا أيلول 1998 أن يكشف عن أرقام مذهلة من القصفين السابقين 81 و91 بدون أن تتخذ إجراءات ناجعة لمعالجة خطر الإشعاع! ما فاقم اتساع رقعة التلوث في العراق بفعل الغبار والرياح والنباتات والحيوانات المتغذية عليها الى المناطق المكتظة بالسكان والمدن!وكانت ثالثة الأثافي بل الطامة الكبرى هي في الهجوم الامريكي عام 2003 لأسقاط النظام السابق في نيسان، حيث تكشفت عن جريمة لا يمكن السكوت عنها وهي استخدام أسلحة فتاكة قذائفها من اليورانيوم المُنَضَّب Depleted Uranium، والتي أدت الى تلويث العراق إشعاعيا بشكل خطير وهو ما يعد سابقة خطيرة بعد استخدام القنابل الذرية في ناغازاكي وهيروشيما عام 1945. ولا بد من الوقوف هنيهة مع اليورانيوم المُنَضَّب أو المستنفد وهي تسمية مضللة تعني بقايا خامات اليورانيوم
بعد أن استخلص منها اليورانيوم المُخَصَّب Enriched Uranium المشع بطرق التركيز المعروفة، ويعرف علميا اليورانيوم المنضب بأنه يحتوي ما لا يقل عن 0,711% من اليورانيوم 235. ويستخدم في إنتاج الأسلحة والتجارة..وتعتبر الولايات المتحدة تمتلك أكبر خزين منه تليها روسيا ففرنسا. وبعد قصف أمريكا لمفاعل التويثة عفي نيسان عام 2003 تم نهب الأواني والمعدات وحاويات الكعكة الصفراء من قبل الأهالي بتشجيع أو سكوت ومرأى من القوات الأمريكية مما تسبب بكارثة فعلية لسكان المنطقة وما جاورها...ناهيك عن الأماكن التي أستخدمت فيها المقذوفات المصنوعة من اليورانيوم المخضب، وهو أمر من الناحية القانونية يلزم من اسرائيل والولايات المتحدة بتقديم التعويضات خاصة للذين راحوا ضحية هذا السلاح الخبيث، وهذا ما فصله الدكتور المقدادي بزياراته الميدانية للمناطق الملوثة..
أما المحور الثالث فهو الكشف عن تكتم النظام السابق لعشر سنين عن حجم التلوث وعن الإصابات البشرية والبيئية من عام 81 الى عام 91 بعدها كشف عنها لأغراض سياسية، كما فضح الكاتب سيل الأكاذيب والتضليل وشراء ذمم الإعلاميين وقلة من العلماء الذين برّروا وزوّرا الحقائق لصالح مستخدمي هذه الأسلحة وقد تصدى لهم نخبة كبيرة من العلماء الشرفاء الذين ثبّتوا الحقائق وبينوا مكامن الكذب ودوافعه السياسية، كما تصدى للنواقص والطرق المتعثرة في المعالجة الجادة من قبل الوزارات المعنية البيئة والصحة في تقديم المعلومات والمنجزات في حصر التلوث وتوعية المواطنين من أخطاره، بل ورسم خريطة التلوث مع كمية الاشعاعات الموجودة في مختلف أنحاء العراق، لقد سلط البوفسورالمقدادي الاضواء على هذه الحقائق وبسطها للقاريء وبذل جهدا مضنيا من أجل أن تكون سلسة للقاريء، لذلك جاء هذا الكتاب ليكون مرجعا مهما لكل من يريد أن يستفيد منه في نشر الوعي البيئي والتنبيه على مخاطر التلوث والطرق العلمية لمعاجتها..ونظرا لخطورة التلوث الاشعاعي اقترح على وزارة التربية والتعليم ضمّ موضوع البيئة ومخاطر التلوث الى المناهج الدراسية ليدرس كمادة علمية فهل هي فاعلة ذلك؟!
أقترح على الأستاذ الدكتور المقدادي بأيجاز الجزء الكيميائي الإشعاعي او إلحاق ثَبْت بالمصطلحات والتعريفات والمفاهيم العلمية ليسهل على غير المختصين فهم مادته العلمية،،كما أتمنى أن يُغيَّر تصميم الغلاف الخارجي ليكون بمستوى الكتاب القيم، فالتصميم بدا فقيراً غير جميل في هذه الجماجم الاربعة وصورة الأشعة السينية لكف وقد لصقت عليها عبارة قف الإنكليزية، وكأن الكتاب كتاب موت وليس كتابا علميا يسلط الضوء على عوامل الهلاك من أجل أن تبقى ورقة الحياة خضراء نضرة؛ وكذلك اللون الوردي والكتابة باللون الأحمر ما ألغى الكونتراست الضروري جداً لإبراز العنوان وإسم المؤلف كل هذا جعل التصميم منفّرا للرائي،، فمثلاً يمكن استحدام الإشارة العالمية الدالة على الإشعاع وجعلها ضمن الإشارة المرورية الدالة على المنع وهي دائرة وخط مائل باللون الأحمر، ويُحبَّذ إضافة وردة بأوراق خضر معبرة عن الوجه النظيف للبيئة؛ وطبعا هذا مجرد اقتراح للطبعة الثانية..
قبل أن يستفحل التلوث الاشعاعي بفعل استخدام المفاعلات وعدم صيانتها، بل وانفجاراتها الكارثية أو بفعل الحروب، كانت قضايا البيئة تعنى بشكل أساس بالتلوث البايولوجي، والتلوث الكيميائي، والأمطار الحامضية وما ظهر من تغيرات على البيئة كالانحباس الحراري، والتصحر وارتفاع درجة الحرارة على كوكبنا وكذلك التلوث الصوتي،،،وكان نشطاء المحافظة على البيئة يلاحقون في البحر والبر نقل النفايات الذرية ويمنعون التخلص منها في الصحارى أو المحيطات، وكانت منظمات الخضر تبذل جهودا كبيرة بعدم السماح للناقلات بالتخلص من نفايات الزيوت في البحر، التي تكون بقعا عائمة من الزيوت تمنع الهواء الضروري للكائنات البحرية ما يؤدي الى نفوق أعداد كبيرة من الثروة المائية بل هناك أنواع من الأسماك الحساسة قد انقرضت أو في طريقها الى الانقراض، لقد خاض هؤلاء نضلات مشرفة في صيانة البيئة وفضح المؤسسات التي ساهمت في قطع الغابات المطيرة في البرازيل وتحويلها الى مراعِ للأبقار كمصدر حيواني لشركات اللحوم بما في ذلك مكدونالد سيء السمعة...
لكن قليلا من سمع ببعض المعتقدات الدينية التي من صلب عقائدها الحفاظ على البيئة مثل حركة جبكوChipko movement وهي حركة جذورها الدينية قديمة في شمال الهند، ومن أهم مبادئها المحافظة على الاشجار والحيوانات، وتجددت في بداية السبعينات في مقاطعة أوتار برادش عندما نوت الحكومة قطع الاشجار في الهملايا حيث لعبت النساء دورا متميزا في عناقهن للأشجار وأفشلن المشروع وقدمت ضحايا والحركة من مبادئها الهامة هو اللاعنف، وقد نالت هذه الحركة إعجاب العالم وألهمت كثيرا من المنظمات لا سيما حركة Träkrammare السويدية أو معانقو الاشجار الذين لعبوا دورا قلّ نظيره في إفشال مشاريع الحكومة في قطع الأشجار لإنشاء الطرق السريعة لا
سيما E6 في مقاطعة بوهوس تزعم هذه الحركة التي ما زالت نشطة اليسار الجديد السويدي. وهنالك نِحلة بشنوي Bishnoi الهندية في مقاطعة راجستان التي تعني 29 مبدأ، أسس هذه العقيدة المعلم جابهيشوار قبل 450 عاماً، وتتمحور هذه العقيدة بالعناية بالبيئة النباتية Flora والحيوانيةFauna وتعتبر هذه العقيدة من أكثر العقائد إنسانية، فهي لا تعرف العنف أبدا، ومن مبادئها التسعة والعشرين، ثمان تتعلق بالمحافظة على النبات والحيوان، وخمس للعبادة، والباقي للقضايا الصحية والغذائية والاجتماعية، ومنذ نشوئها خاضت معارك سلمية من أجل حماية الغابات والحيوانات، وهم نباتيون في طعامهم. لا أود الأستغراق في هذا الاستطراد إنما هدفت أن أعرّج على مفارقة، وهي كيف تحاول هذه الملل الفقيرة المحافظة على البيئة وكيف تلوث الأمم الغنية البيئة؟ وفي ذلك حكمة!