العراق تايمز: كتب هشام حيدر.
يتظاهر البعض هنا وهناك مطالبين باصلاح النظام القضائي، او استقالة رئيس السلطة القضائية مدحت المحمود، ولايعلم معظم هؤلاء ان لم نقل كلهم دور السلطة القضائية في كل ما آلت اليه الامور، وإنها هي من شرع الديكتاتورية وغلفها بغلاف قانوني ودستوري. وفي بضعة مقالات متتالية ،مستلة من بحث اكاديمي بتصرف-للامانة- . سنقف على الكوارث التي الحقتها السلطة القضائية بقيادة المحمود بالعراق ونظامه السياسي، وسنفهم الاسباب الكامنة خلف مسرحية استقالة المحمود ورفض مجلس القضاء طلبه بالاجماع.
1- تحويل البرلمان الى سلطة اقرار لما يرتأيه رئيس الوزراء!
برغم إجماع الفقه على إن الإختصاص الأصيل للبرلمان هو التشريع، وإن المشرع الدستوري العراقي قد جعل ذلك في مقدمة اختصاصاته (م61-أولا)، وبرغم اتفاق جانب كبير من الفقه على إن النظام الذي اعتنقه المشرع الدستوري في العراق أقرب إلى النظام المجلسي منه إلى النظام البرلماني بعد الصلاحيات الواسعة التي أسبغها عليه المشرع، إلا أن المحكمة الإتحادية عمدت إلى نزع أهم صلاحيات البرلمان عنه، وهي الصلاحية التشريعية، بعد أن قررت إن له حق اقتراح القوانين فقط لتقلب كفة التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لجانب الأولى، بعد أن كانت تميل لصالح الثانية، بقرار المحكمة الذي جعل صلاحية تقديم مشروعات القوانين في عهدة السلطة التنفيذية حصرا.
وبذلك اختزلت المحكمة الإتحادية صلاحية مجلس النواب في إطار العملية التشريعية بإقرار ما تطرحه السلطة التنفيذية أو رفضه، وصيّرته سلطة إقرار بعد أن كان سلطة تشريع، وهذا منطق غريب. وقد بررته المحكمة تارة بأن (مشروعات القوانين خصّ بتقديمها السلطة التنفيذية ويلزم أن تقدم من جهة ذات اختصاص من السلطة التنفيذية لتعلقها بالتزامات مالية وسياسية ودولية واجتماعية وإن الذي يقوم بايفاء هذه الإلتزامات هي السلطة التنفيذية...وليست السلطة التشريعية)، وذهبت المحكمة إلى إن الدستور قد رسم منفذين لتقديم مشروعات القوانين وهما يعودان حصرا للسلطة التنفيذية. إلا أن المحكمة وضعت بعض القيود الأخرى التي تختزل السلطة التنفيذية بـ(رئيس مجلس الوزراء) دون غيره، فمشروع القانون يجب أن يقدّم (من جهة ذات اختصاص من السلطة التنفيذية)، لذا فإن (إقرار القانون من مجلس النواب ومجلس الرئاسة...دون أن تبدي السلطة التنفيذية الرأي فيه...حيث إن رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول التنفيذي المباشر...) كفيل بالحكم بعدم دستوريته.
ومن المستغرب أن تقرّ المحكمة بأن مجلس الرئاسة قد أقرّ القانون، ثم تدّعي إن السلطة التنفيذية لم تُبدِ رأيها فيه. ولكن هذا الإستغراب يزول بملاحظة إن المحكمة قد لجأت إلى تبعيض السلطة التنفيذية بقولها (جهة ذات اختصاص من السلطة التنفيذية)، وإبرازها إن (رئيس مجلس الوزراء هو المسؤول التنفيذي المباشر عن السياسة العامة للدولة).
وذهبت المحكمة كذلك إلى إن الدستور أجاز لمجلس النواب تقديم مقترحات القوانين (ومقترح القانون لايعني مشروع القانون لأن المقترح هو فكرة والفكرة لاتكون مشروعا ويلزم أن يأخذ المقترح طريقه إلى أحد المنفذين المشار إليهما لإعداد مشروع القانون...إذا ماوافق ذلك سياسة السلطة التنفيذية).وبذا أصبح مجلس النواب تابعا لرئيس الوزراء (ينظر قرارات المحكمة الاتحادية 43-44 لسنة 2010).
إلا إن من الواضح أن ليس كل القوانين متعلقة بالتزامات مالية وسياسية، كما ان الدساتير والبرلمانات في العالم لم تكن لتجهل إن إلايفاء بتلك الإلتزامات من اختصاص السلطة التنفيذية حين جعلت الإختصاص التشريعي اختصاصا أصيلا للبرلمان. لذا ذهبت المحكمة في مناسبة أخرى لتقديم تبرير جديد، فبعد أن أقرّت بأن تشريع القوانين حق للبرلمان ويقع في صلب اختصاصاته، ذهبت إلى إنه (لكي تأخذ مقترحات القوانين سياقاتها الدستورية في مجالس التشريع بأن تصاغ بصيغة مشاريع قوانين بالتنسيق مع السلطة التنفيذية التي أناطت بها المادة (80\أولا) من الدستور مهام تخطيط وتنفيذ السياسة العامة للدولة والخطط العامة...وإن تنفيذ هذه المهام يلزم أن ترسل مقترحات القوانين إلى السلطة التنفيذية لدراستها وجعلها على شكل مشاريع قوانين) (القرار 64 اتحادية 2013).
ويلاحظ إن النظام الداخلي لمجلس النواب عالج في الفصل الرابع عشر منه اقتراحات الأعضاء لمشروعات القوانين، فنصّت المادة (120) منه على أن (يحق لعشرة من أعضاء المجلس اقتراح مشروعات القوانين إلى رئيس مجلس النواب مصوغة في مواد...).ولم تتقدم بالطعن بعدم دستورية المواد (120-126) من النظام الداخلي للمجلس أية جهة، بل إن المحكمة الإتحادية نفسها سبق لها أن استندت في بعض أحكامها إلى النظام الداخلي للمجلس نفسه (9اتحادية2009)، وإن المشرع الدستوري نفسه كان قد جعل من صلاحيات مجلس الوزراء (اقتراح مشروعات القوانين) (م80\ثانيا)، وإن جانبا كبيرا من الفقه كان قد عرّف اقتراح القانون، بأنه (عرض مشروع القانون على السلطة المختصة بالتشريع) ( تنظر تلك التعريفات في: أشرف عبد الله عمر،السلطة المختصة باقتراح القوانين،رسالة ماجستير مقدمة الى مجلس كلية القانون في جامعة بابل، 2004،ص5ومابعدها).
ولقد سنّ مجلس النواب بالفعل عدة قوانين كان مصدرها مشاريع قوانين مقترحة من أعضاء أو لجان المجلس، وقد صادقت عليها رئاسة الجمهورية ونشرت في الجريدة الرسمية ومازالت سارية المفعول. باستثناء ما أخذت السلطة التنفيذية تعيد النظر فيه وتطعن بعدم دستوريته، كقانون مجلس النواب رقم (50) لسنة 2007، الصادر استنادا إلى المادة (63-أولا) من الدستور التي تنص على أن (تحدد حقوق وامتيازات رئيس مجلس النواب ونائبيه وأعضاء المجلس بقانون)، ولاشك في إن مثل هذا القانون، لا هو من الإلتزامات الدولية للسلطة التنفيذية، ولا هو من السياسة العامة للدولة، إلا أن المحكمة الإتحادية قررت أن لاتقبل من القوانين إلا (ما وافق سياسة السلطة التنفيذية)، تلك السلطة التي نقّبت في العام 2013 في القوانين الصادرة عن مجلس النواب طوال السنوات السابقة، لتجد حيفا في تمتع"رئيس مجلس النواب ونائبيه بكافة الحقوق والإمتيازات التي يتمتع بها رئيس مجلس الوزراء ونائبيه في جميع المجالات المادية والمعنوية"، وكذلك في تمتع"عضو مجلس النواب بكافة الحقوق والإمتيازات التي يتمتع بها الوزير..."( المواد (4،3) من قانون مجلس النواب رقم (50) لسنة 2007 )، برغم صدور القانون عن المجلس في وجود السلطة التنفيذية نفسها، والتي قامت بتوفير التخصيصات المالية اللازمة لمتطلباته طوال ست سنوات، قبل أن تطعن بدستوريته في العام 2013، بعد أن توصلت إلى إن في المساواة بين رئاسة مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء في الحقوق المادية والمعنوية، تعارضا"مع ثوابت دستورية صريحة نص عليها الدستور والمتمثلة بمبدأ المساواة وعدم التمايز بين العراقيين الوارد في المادة (14)من الدستور،فضلاعن خرقها لمبدأ العدالة الإجتماعية التي نص عليها المشرع الدستوري في صلب الوثيقة الدستورية (المادة (22)"! ( القرار 86 اتحادية 2013). والغريب إن المحكمة الإتحادية في هذه الحالة لم تتلمس (روح الدستور وغاية النصوص الدستورية) -كما بررت احد قراراتها كما سيتضح في موضوع لاحق ان شاء الله- لتجد إن روح الدستور وغايته قامت على أسس النظام البرلماني.
وقد كان الإختصاص التشريعي حكرا على البرلمان حتى في النظام الرئاسي، فلايملك الرئيس الأمريكي، مثلا، حق تقديم مقترح أو مشروع قانون، إن كان هناك فرق بين المصطلحين. وبذا تكون صلاحيات مجلس النواب العراقي في السياق التشريعي، دون صلاحيات مجلس الحكم في ظل الإحتلال، ودون صلاحيات المجلس الوطني في ظل النظام البعثي، فقد كان للمجلس اقتراح مشروعات القوانين وتشريعها (م 47\أولا ،ثانيا) قانون المجلس الوطني رقم (55) لسنة 1980. كذلك (م52\ أولا،ثانيا) قانون المجلس الوطني رقم (26)لسنة 1995.
والأغرب في هذا السياق، إن المحكمة الإتحادية نفسها، أوعزت لمجلس النواب باعتماد الآراء الفقهية لكافة المذاهب الإسلامية عند إصداره تشريعا ينظم الأحوال الشخصية، وإلى إصدار تشريع ينظم كوتا الأقليات (القرار59\ اتحادية\2011. والقرار6\ اتحادية\2010.)، لتوقع المحكمة نفسها في عدة تناقضات؛ فهي توعز لمجلس النواب لإصدار تشريع سبق لها أن سلبت صلاحيته عنه ،فكان الأولى بها، استنادا لما ذهبت إليه أن توعز للسلطة التنفيذية لتقديم مشروع قانون، بدلا من مجلس النواب الذي تفترض به أن يطرح (فكرةً)، بأمل أن توافق (سياسة السلطة التنفيذية). أما طلب إصدار تشريع ينظم كوتا الأقليات، فإنها سبق أن قضت بعدم دستورية ذلك على أنه يخل بمبدأ المساواة وتكافؤ الفرص وإنه لايستند إلى إحصاء دقيق (القرار24\اتحادية\2013. ).
ويعضّد الطرح المتعلق بعدم صحة تفسير المحكمة هذا،إن المشرع الدستوري ساوى بين رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء مجتمعين وبين خمس أعضاء مجلس النواب، في منحهم حق اقتراح تعديل الدستور من جهة (م126\أولا) ،وإن المشرع لم يفرق في هذه المادة بين مصطلحي (مقترح) و (مشروع) من جهة ثانية، وإنه قرن إقرار التعديل،سواء كان صادرا من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء مجتمعين، أومن خُمس أعضاء مجلس النواب، بموافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب عليه (م126\ثانيا،ثالثا) ، وبالأغلبية المطلقة (م142\ثانيا). فيتضح إن لمجلس النواب صلاحية اقتراح تعديل الدستور وإقراره وطرحه للاستفتاء، من دون أن يؤخذ رأي السلطة التنفيذية والتزاماتها بالحسبان . وشتّان بين تعديل الدستور أو إجراء مراجعة شامله له، وبين إصدار قانون.
والنتيجة ان المحكمة الاتحادية جعلت من البرلمان العراقي حالة فريدة من نوعها، برلمان لايملك سلطة تشريع قانون مالم يكن القانون قد اتى اصلا من رئاسة الوزراء، او انه قد اخذ موافقة رئاسة الوزراء مسبقا. اما رئيس مجلس الوزراء-المالكي- فقد تعامل مع الموضوع على طريقة تريد غزال اخذ قرد، فلو اراد التهرب عن امر قال ان التشريع صلاحية البرلمان، اما اذا اراد رفض ماشرعه البرلمان قال ان البرلمان.....لايملك صلاحية التشريع!
https://www.youtube.com/watch?v=RqMj3pwVy_k
فيديو تحت عنوان (المالكي يناقض نفسه في جهة التشريع .. مرة يقول البرلمان ومرة يقول الحكومة)
فهل يعقل ان برلمان الدمى زمن صدام،يملك صلاحية التشريع ولايملكها برلماننا الحالي؟
هذا ما اختلقته المحكمة الاتحادية برئاسة الشريك في الديكتاتورية....مدحت المحمود!
فقبل ان تهاجموا السلطة القضائية ورئيسها،لابد ان تطلعوا على جرائمها،وهذه كانت ..أخطرها!