ويقولون: "اللي بيك ما يخليك"، ومعنى ذلك أن بعض ما فيك من غضب قد لا يدعك تهنأ بهدوئك النفسي مهما حاولت فتراك تصرخ خارجا عن طورك. فكرت بهذا وأنا أنسلُّ حزينا من جولة في بعض مواقع الأنترنيت بعد أن امتلأ قلبي قيحا. والسبب آراء بُثّتْ هنا وهناك ما أنزل الله بها من سلطان. تنظر يمينا فإذا بسياسي يقول أن أصل الجنوبيين يرجع إلى الهند. تستدير شمالا فتصادف مثقفا وهو يمعن في ازدراء شعائر الناس متهكما مترفعا. والغريبُ أنه يصوغ عباراته بشكل مخاتل فيبدو مستغربا وكأنه قادم للتو من باريس، بينما، هو في الواقع، ابن هذه البيئة ويعرفها حق المعرفة لدرجة أن أمه وشقيقته وعمته ربما كنّ يلطمن في اللحظة ذاتها التي تشهد طرح رأيه «العظيم» على الملأ.
تذكرت المثل: "اللي بيك ما يخليك"، ثم حزنت لأنني سأضطر للخروج عن طوري وتذكير قرّائي بموضوع ربما بات أقدم من «صابون الركي» لفرط ما نوقش من مختلف الزوايا، سواء كان ذلك من قبل مثقفين أو أنصاف مثقفين، من طائفيين يلبسون قبعات مثقفين أو من رفاق لهم متنورين لا يكاد واحدهم يفتح فمه حتى يقال له ـ صه وتنحَّ جانبا.
غير أن انتقاد الشعائر بلغة ثقافية خدّاعة قد لا يُعدُّ شيئا ذا شأن إزاء سماعك لسياسيٍ من بني جلدتك وهو يطعن في أصل شريحة عراقية كاملة، مكررا خرافات القوميين المضحكة من أن بعض أبناء البلد استُقدِموا من الهند مع الجواميس ثم «تعرقوا» كما «تعرّق» الذين قبلهم. وهذا الرأي مما يضحك الثكلي ويعكسُ عماءً قديما طالما عانى منه القومويون العرب. أولئك الذين قرأنا لهم ما خلّف في القلبِ جرحا لا يزال ينزُّ دما حتى اللحظة.
لا أرغب بنكأ الجراح لكن، بما أنني خارج عن طوري الآن، فلي أن أتذكر الآتي: ذات بحثٍ أكاديمي لي، فوجئت يوما بأقوال كهذه أطلقها كبار المثقفين في فترة الخمسينيات الشبيهة حد اللعنة بأيامنا. حينذاك كانت شاعت تهمة الشعوبية وباتت تطلق على أيٍّ عراقوي معارض للقومية لاسيما إذا تحدّر من شريحة «الهنود» آنفة الذكر. أحد أهم الشعراء ممن ارتبط اسمه بالحركات اليسارية و»الكوزموبليتية» وقيم التحرر كان سُأل ذات مرة عن الشعر والشعوبية فقال: «لا يوجد شاعر في التاريخ العربي هجا أمته إلّا الشعراء الشعوبيون. عندما نستقرئ التاريخ العربي لا نجد شاعرا من أصل عربي هجا العرب». كان التلميح واضحا والخصم عددٌ كبير من زملائه الشعراء اللاقوميين من ذوي الحس العراقوي. والطريف فعلا أنهم كانوا يساريين مثله. لا بل أنه، في مرة آخرى، كان قال عن بعض الأدباء المسيحيين ممن نافسوه على تمثيل الحداثة؛ « أعتبر أدب هؤلاء أدب أقلّيات وأعتقد أن كل أقلية لها حق التعبير بلغتها القومية، ولكن على ألا تعادي الأمة الكبيرة التي تعيش بين ظهرانيها».
كان الأمر بالنسبة لي فكاهة لا تُحتمل، أو لنقل أنه نوع من أنواع الكراهية التي تتعارض تماما مع قيم التسامح التي يفترض بالمثقف الإيمان بها. لكن على من ترتّل مزاميرك يا داود! فأصحابنا، سوى أقلية نادرة، عرفوا بنزوعهم لارتداء القشور اللمّاعة بينما هم يحتفظون، في جوهرهم، بباطنٍ مظلم، فئوي وضيق الأفق. الدليل على ذلك ما نشهده في عراقنا المبتلى بأمثالهم اليوم. بعضهم مثلا مستعدٌ أن يفلسف مهرجانا للثيران الهائجة في أسبانيا فاغرا فمه بوصفه مهرجانٍا حضاريا قلّ نظيره، لكنه ما أن يلتفت لما يفعله المكاريد من بني جلدته حتى يتأفف ويقول ـ ما هذا التخلف! وفي غضون ذلك، قد يتذكر منحدرهم وخرافته فيهزّ رأسه سعيدا باكتشاف العلّة، علة التخلف المريع.
أي والله، إن الأمر لمزعج، لكنه، في الجوهر، مجرد فكاهة من فكاهات المثقفين. لذلك توقفت عن نقاشه لولا المثل الجميل: اللي بيك ما يخليك! نعم، اللي بيك ما يخليك، فاعذروني!
مقالات اخرى للكاتب