كلُّ ما فيك جميلٌ، فكأنّك مقدودٌ من حلبلاب، ابتداءً من اسمك الذي لا أستطيع نطقه إلاّ وشعرتُ أني على وشك أن أغنّي كما كانت أمّي تفعل حين تريد ترويض نزقي الصغير.. وعلى طريقتها حين يستبدُّ بها فرحٌ طارئ، ذلك لأن اسمك معبّأ بما لا طاقة بي لاحتمال موسيقاه الجنوبيّة العذبة، وحزنه الشفيف، وانتهاءً بأخبارك التي تسكّنُ الألمَ الممضّ المبرح في مهجنا، ألمَ إصرار المفسدين على سرقة أحلامنا بوطنٍ آمنٍ وجميل.
عصفتْ برأسي أسئلةٌ لم أجد بُدّاً من أن أطرحها عليك: كم عدد القلوب بين جنبيك؟ فلا يمكن لاكتظاظ المحبّة أن يحلّ في قلبٍ واحدٍ.. كم أسوّة حسنة بها تقتدي؟ أعرف منهم السيّد محمّد الصدر، فمن معه يرحمك الله، وإن كنتُ أعرفُ أنه كافٍ وحده ليحلّقَ بكَ إلى مديات الأسطورة؟ هل صحيح أنكَ ما زلتَ تنظرُ في راحتيك كلّما أنهيتَ عملاً في شوارع العمارة وأزقتها، كي تجبرَ ذاكرتك على استحضار المردي الذي سيّرتَ به مشحوفك الصغير إلى مدرستكَ الابتدائيّة في الصحين وسط الهور الذي تنتمي روحك لاتساعه وبهائه؟ لماذا، إذن، يتنكّرُ غيرُك من المفلسين لمشاحيفهم، ولا يتذكّرون منه سوى سواد قيره، فيشمئزون؟ وهل صحيحٌ، أيّها الطيّب، أنك تزيّنُ مكتبكَ بصورةٍ كبيرةٍ لـ"نعيج الماي" كي تتولّى شحذ ذاكرتك دوماً بحلمك الكبير وحلم ملايين العراقيين بعودة محمودة للهور، وقد اخترتَه من بين مئات الطيور التي تعرفُ الطريق إلى جنوب العراق لأنّكَ تعلمُ أنه الطائر الذي لا تخدعه أنصافُ الحلول، فأمّا الهور كما عهده قبل أن يتحوّلَ إلى يباب، وإلاّ فلا؟ وهل صحيحٌ أنّك تفتتحُ صباحكَ، بعد الصلاة على محمّد وآله، بمقطع فديو صغير في هاتفكَ لامرأةٍ ميسانيّةٍ تنعى ابنها الذي قتله جنود بريطانيون وهم يحاولون التأكّد من دقّة تصويبهم من مسافات بعيدة، ثم تبيحُ لعينيك ذرف ما تيسّر لهما من دمع كلّ صباحٍ، ذلك لأنّكَ من المؤمنين أن ما بالدموع من طاقة لا يعدلها غير القدرةِ على كفكفتها في عيون الآخرين، لذا تهرعُ إلى سخيّات الدموع من أمهاتنا الميسانيات فتجالسهن، فلا أنسَ لك بغيرهن؟ وهل صحيحٌ، أيها النبيل على طريقته، أنّك تقرأ في سِفرِ الخرابِ وتتمعّنُ في صفحاته كلَّ يومٍ، كي تسنَّ أعصابكَ بمبرد الصبر، لتُحسن غرزه في قلب الفساد الذي ينهش قلوبنا؟
كم أنا قلقٌ عليكَ، لا لأنّي أحبّك فقط، وإن كان الحبُّ سيّدَ الأسباب للقلق والخوف، ولا لأنّي أراك نيزكاً برّاقاً في عتمةِ سمائنا الحالكة، بل لأنّي أراكَ طرفاً في معادلة وحدَك، أمّا طرفها الآخر فهو أنباء الخراب المتسيّدة بجدارة على أسماعنا، فكأنّك تولّيتَ، وحدَكَ، رأب الصدع الكبير في قلوبنا.
شرفٌ كبير لي أن أخاطبكَ، وشرفٌ أكبر أن أنتمي إلى ما انتميتَ إليه، إلى شروكَيتك المطعونة بنرجسيّة آخرين على مدى دهور، إلى من صلّيتَ خلفه، إلى ميسانك الجميلة، ومن وراءها العراق كلّه.. أيّها القابض على الجمرِ، لكَ وحدك، بعد الله، أنحني.