تشكل الشعارات المثالية الحالمة الداعية الى العدالة والمساواة ... حاجزا كبيرا يحجب حقيقة النفس البشرية وسلوكها الإجتماعي ، فقد جرت العادة في الخطاب المثالي التركيز على ( مايجب ان يكون ) وليس على ( ماهو كائن ) فعليا .. وبالتالي أنت امام سلطة قوية للشعارات تؤثرا سلبيا على الوعي والنظرة الواقعية للبشر .
جميعنا يتحدث عن رفضه وكراهيته للتعصب .. لكن هل حقا نحن بعيدين عن التفكير والسلوك المتعصب الإرادي وغير الإرادي (( اللاشعوري )) .. هل نستطيع بفعل التثقيف والتحضر والقيم الأخلاقية والدينية إنتزاع ومحو تماما نزعة التعصب من نفوسنا ؟
الجواب الواقعي للأسف : لا !
ولعل أحد أسباب التعصب التربية ( الصحيحة ) وليست الخاطئة .. إذ يتربى الإنسان منذ ولادته على الإنتماء الى : عائلته وقبيلته وطائفته ودينه وقوميته ومدينته وبلده وغيرها من الإنتماءات ، وطبعا بالضرورة سينتج عن هذه الإنتماءات ميول التعصب العفوية بصورة لاإرادية ، وهذه التنشئة صحيحة وليست خاطئة وهي تشمل جميع المجتمعات ولايوجد بديل لها ، إذ لا يمكن ان يعيش البشر من دون إنتماء ، ومن المستحيل على إدراك الطفل إستيعاب قيم العدالة والمساواة والشعارات الإنسانية وتحويلها الى متبنيات ذاتية وإيمان يتجسد في السلوك اذا ماحاولنا تغذيته بها ، وعندما يكبر يكون الوقت قد فات على زرع هذه القيم في عقله وروحه بعد تشكل (( اللاشعور )) وفرض سطوته على الفكر والمشاعر والسلوك مهما بلغ الشخص من درجة الذكاء والثقافة .
وحينما يكبر الإنسان في جميع المجتمعات غالبا ماتربطه علاقة (( عصابية )) بالناس بحسب المحلل النفسي الفرنسي بيير داكو - وأنا هنا أحاول تطبيق (( العصاب .. الذي هو خلل وظيفي يصيب الجهاز النفسي )) في موضوع التعصب تحديدا ، إذ نرى الأكثرية تلجأ الى اسلوب المقارنات وفق مقاييس سلسلة إنتماءاتها المذكورة أعلاه ، وسيكون دائما حاضرا امامه الشخص حينما يلتقي بأحد ما سؤال : (( هل هو أعلى مني .. أم أدنى مني )) فلا أحد يعيش من دون مقارنة نفسه بالآخرين وماينتج عنها من مشاعر الفوقية العنصرية ، أو مشاعر الدونية والنقص ، فالناس ( الأصحاء نفسيا ) وليسوا المرضى يستمدون شعورهم بالقيمة والمكانة والأمان النفسي من تواجدهم في المجتمع ومن نتائج مقارنة أنفسهم بالآخرين ووجود من هم ( أدنى ) مرتبة منهم تشعرهم بالتفوق والقيمة وتوكيد الذات .. لاحظ كيف يُستفز الشخص (الأعلى ) ويغضب عندما يكلمه أو يعامله الشخص (الأدنى ) منه بطريقة الندية والمساواة .. إذ يشعر (الأعلى ) بالقلق والذعر وإهتزاز الإمان النفسي على قيمته ويبدأ الإحساس بالنقص يهاجمه ويصور الأمر له كما انه لم يعد يتمتع بالهيبة والشخصية المحترمة !
أين المشكلة إذن .. اذا كانت التربية الصحيحة تؤدي الى التعصب ؟
حسب رأيي المشكلة في طبيعة الإنسان المحدودة التي تم تضخيمها وإحاطتها بمواصفات مثالية أكبر من حجمها ، فالكثير من الشعارات الإنسانية هي مجرد أمنيات لما يجب ان يكون عليه البشر من الصدق والنزاهة والنبل والعدالة ... ولكن هل يمكن تطبيقها عمليا ؟ .. من الصعب جدا تجاوز الناس مستوى بشريتهم المحدودة والإرتقاء الى هذه المواصفات المثالية ، ولهذا نجد في التاريخ من بين ملايين الأفراد نماذج قليلة جدا هم إستثناء تميزوا بمزايا عظيمة وهؤلاء لايشكلون القاعدة !
ماهو علاج التعصب ؟
للأسف لايوجد علاج نهائي يمحوه نهائيا ، لكن يمكن السيطرة على مشاعر التعصب ومنعه من التحول الى سلوك عنصري جارح للآخرين بواسطة قوة القوانين الرادعة ، والتحضر والقيم الأخلاقية .. لكن هذه السيطرة تكون ظاهرية فقط ولاتلغي مشاعر التعصب من النفوس وعمل اللاشعور ، ومن يستطيع التحكم بمشاعره والسيطرة عليها اعداد قليلة جدا ، ولهذا فالتعصب يبدو من طبائع البشر الذي لامفر منه !
ماعلاقة موضوع التعصب بالكيان الشيعي ؟
على الشيعي الحذر من الوقوع في فخ الشعور بالخجل والذنب والخطيئة إذا مافكر بشكل علني وصريح بمصالح طائفته ودافع عنها .. فالإعلام والدعاية السياسية ( السنية ) الداخلية والعربية نجحت في التأثير على وعي الشيعي من خلال التركيز على ترديد شعارات الوطنية والمواطنة ووحدة العراق ، وتمكنت هذه الدعاية من إشعار الشيعي بالإثم والخيانة إذا ما حاول التفكير بشكل مستقل لصالح طائفته ، ولهذا نلاحظ الخطاب الشيعي مغرق بشكل مبالغ فيه بمفردات الوطنية والحرص على وحدة البلد وكأنه يحاول دفعة جريمة الخيانة الوطنية عنه خوفا من تهمة الطائفية في بلد لم يعرف نظام المواطنة والعدالة والمساواة مطلقا !
فليس من الواقعي مطالبة الشيعة وغيرهم من أبناء الطوائف والقوميات بالتنكر لإنتماءاتهم والتخلي عن مصالحهم والذوبان الكلي والتلاشي في أحضان الدولة بحجة الحفاظ على الوحدة الوطنية ، فكل طائفة وقومية ... تشعر بدرجة ما من مشاعر التعصب لنفسها يطلق عليها تسمية إنتماء تخفيفا وتلطيفا له ، بينما كافة مشاعر الإنتماء الديني والقومي والإجتماعي وحتى الوطني .. هي في حقيقتها مشاعر تعصب ، فالإنتماء تفضيل .. وكل تفضيل هو تعصب .
مقالات اخرى للكاتب