يغيب عن بال الذين أغضبهم رفعُ علم كردستان على مؤسسات الدولة في كركوك، وكذلك عن أعضاء مجلس المحافظة (الكورد) الذين صوتوا ونفذوا هذا العمل الاستفزازي غير العاقل وغير المجدي، والذي يأتي في أسوأ توقيت، أنه لن يقرر مصيرها، ولن يجعلها من أملاك هذا الحزب أو ذاك.
فولاية تكساس الأمريكية تفعل الشيء نفسه من عشرات السنين، بدوافع عنصرية (تكساسية) عريقة دون أن تنفصل عن الدولة الفيدرالية، وهي تحترم، طواعية، وتلتزم بكل القوانين الفيدرالية التي تعجب أهالي تكساس أو التي لا تعجبهم، سواء بسواء، بل إن لها وزنا فاعلا متميزا عن باقي الولايات، بنوابها وشيوخها في الكونغرس، وكبار قادة أجهزة الدولة الفيدرالية المهمة الأخرى. بل إنها أعطت لأمريكا أهم رؤسائها الذين صنعوا تاريخها، وغيروا العالم.
ولكن المزعج والممجوج في قرار الأعضاء الكورد في مجلس محافظة كركوك أنه جاء من طرف واحد، وفيه، إضافة إلى الاستهانة بمكونات المحافظة الأخرى، غرورٌ وتحدٍ وتصعيدُ عداوةٍ بلا مبررات.
وكان المنتظر، حتى لو كانوا لا يراعون ظروف الوطن وانشغاله بمقاتلة الإرهاب والفساد والاحتلال، أن يستأذنوا حكومة المركز أو البرلمان، وهم فيهما من الأقوياء والقادرين، ثم يفعلون، لو رُفض استئذانُهم، ما يشاؤون.
أما الذي لا يمكن فهمُه وقبوله فهو أن يخرج رئيس جمهورية العراقيين، كلِ العراقيين، عن هيبة الكرسي الذي يجلس عليه، ويعلن أنه مع (رفاقه) في كركوك، وأنه يضع سياسة حزبه ومصالحَه وقراراته وتحالفاته فرق الرئاسة، وفوق الجمهورية، ولا يستحي.
إنهم، وهذا هو المهم، يُضيفون، بفعلتهم هذه، حلقة جديدة إلى مسلسل مآخذ الشعب العراقي على قادة الحزبيْن الذين دأبوا، من أول عودة الملا مصطفى من منفاه الروسي عام 1958، على اتخاذ مواقف وتحالفات تسيء إلى الشعب الكوردي وإلى عدالة قضيته، بما فيها من انتهازية، وتقلب بين النقيض ونقيضه، وبنقض العهود، وبالغدر بالحلفاء والأصدقاء، والجري وراء المصالح والمكاسب الشخصية والحزبية والعائلية، وهو ما أثبته الواقع المر للمواطن الكوردي قبل غيره، بالدلائل الموثقة.
فقد تحالفوا مع الزعيم عبد الكريم قاسم وانقلبوا عليه، وحاربوه دون هوادة. ثم شاركوا (الانقلابيين) البعثيين الذين أسقطوا عبد الكريم قاسم عام 1963، وانقلبوا عليهم، أيضا، ثم أشعلوا معهم حروبا كلفت الشعب العراقي، عربا وكوردا، كثيرا من الدم والدموع.
وحين عاد البعثيون إلى السلطة في العام 1968 أحيا حزبُ السيد البرزاني وحزبُ غريمه جلال الطالباني أيام السمن والعسل مع صدام حسين، فازدهرت القبلات، وسَخَنت الأحضان المتبادلة، ثم سرعان ما انقلبوا عليه، أيضا، وحملوا السلاح ضده، واصطفوا مع عدوه السابق الشاه محمد رضا بهلوي، ثم مع جيوش عدوه اللاحق الخميني، فقتلوا ضباطا وجنودا عراقيين بالمئات، بينهم كوردٌ عراقيون أيضا، واحتلوا قرى ومدنا من وطنهم لحساب الحليفيْن العدويْن.
ثم حين سقط نظام صدام الذي قالوا إنه نظام (السجون والمعتقلات والمنافي والمقابر الجماعية)، وعاد رفاقنا المعارضون من مقاهي طهران ودمشق وعمان وواشنطن ولندن تقاسموا الأرض وما فوقها وما تحتها مع أحزب الإسلام السياسي الشيعي المتطرفة ذات الولاء الإيراني، وأقاموا نظاما وصفه العالم كله بأنه نظام (سجون ومعتقلات ومنافٍ ومقابر جماعية وسرقة واختلاس وتخابر مع دول أجنبية) باسم الديمقراطية وهي منهم براء. حتى صار العراق، بقلة أمانتهم وقلة أمانة حلفائهم، مضرب أمثال الكرة الأرضية كلها في الفوضى والفساد والتخلف والعصبية العرقية والمذهبية، ولا يستحون.
لا يظنَّنَّ أحدٌ بأن هناك مواطنا عراقيا واحدا ذا عقل وضمير ووعي وإنصاف لا يحترم الشعب الكردي الشقيق، ولا يتمنى له الخير والأمن والسلام، ولا يفصل بينه وبين قادته وتحالفاتهم وشعاراتهم وسياساتهم المنفِّرة.
ترى، لماذا يَجهَد قادة الحزبيْن، (الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني)، في سبيل بناء جسور التفاهم والانسجام والتلاحم مع تركيا وإيران وإسرائيل وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وجزائر الواق واق، وتعزيزها وتمتينها، ولكنهم يفعلون كل غريب وعجيب من أجل حرق جسور المودة والتفاهم والثقة مع أشقائهم في الوطن، على الأقل لضمان أمن دولتهم القادمة التي سيكون العراقيون جيرانها، حتى لو كانوا لا يعتبرون أنفسهم عراقييين، كما أعلن ذلك السيد مسرور البرزاني (ولي عهد السيد مسعود) في أيار/ مايو من العام الفائت؟.
وإن كانوا يريدون إقامة دولة كوردية مستقلة، فعلا، وآمنة فإن عليهم السعيَ لتحقيق ذلك بالعقل وليس بالعضلات، لكي يُجنبوا شعبهم أضرارا وعداواتٍ هو في غنى عنها، وقد لا يكون يريدها، إن كانوا مخلصين له وصادقين في السعي لضمان حقوقه وكرامته وحريته ومستقبل أجياله الراهنة والقادمة.
وهم بكل حساب وكتاب مخطئون لا يدركون أنهم بإقامة دولتهم غصبا على الشعوب المحيطة بها، وبالعصا، والتعالي، والكراهية، ولي الأذرع، واستغلال الظروف، والابتزاز، إنما يضعون تحت عجلاتها قنابل موقوتة لابد أن ينفجر بعضُها إن لم يكن تحتهم فتحت أبنائهم، أو أحفادهم، في قادم الأيام والسنين.
فدولة تقوم لكي تعيش مئات السنين، بالصداقة والتفاهم مع جيرانها قبل حلفائها الأبعدين، واكتساب احترامهم وثقتهم، وتبادل المصالح معهم، أفضلُ من دولة يكرهها جيرانها، ولا يأمنونها، ولا يثقون بحكامها، ولا ينسون إساءاتهم وظلمهم وتعدياتهم.
وهذه إسرائيل أمامهم. عبرةٌ لمن يعتبر. فهي من تسعة وستين عاما ، وبرغم جبروت القوى العظمى التي تضمن أمنها، لا تشعر بأمان، وتتوجس خيفة من أعدائها وأصدقائها على السواء. لا تنام، ولا تصحو، ولا تدري متى يأتي، ولا ماذا سيجيء به الزمن الغدار.
مقالات اخرى للكاتب