كنا نلجأ الى المذياع. يالها من أيام جميلة كنا نعيشها مع هذا الصندوق السحري الذي نسمع منه اخبار واغاني الزمن الجميل وبرامج الفكر والثقافة زالسياسة والادب , وقد ظل هذا الصندوق العجيب رفيق الشباب والشيوخ والنساء من الصباح حتى يجن الليل . بأختلاف أحجامه وهيكله , فهو الرفيق الدائم الذي لايمكن الاستعاضة عنه أبداً. حتى اختلّت التوازنات فصرنا نلجأ الى التلفاز لأنه لايخاطب السمع فقط كما يفعل المذياع بل ان يدمج حاستين من حواسنا الخمس السمع والبصر, فها انت ترى المذيع او المذيعة او المطرب او المطربة ماثلين امامك تتطلع الى ملامحهم وتتمعن فيما يرتدون من ثياب وهم يقرأن لك نشرات الاخبار او يستضيفون من يدلون لك بآرائهم في هذا الشأن او ذاك . تختلف مقاييس الزمن من فترة الى اخرى , فلقد اصبحت الشاشة هي المورد الاول لتغذية وعيك وشحذ ثقافتك , كتاباً مفتوحاً من الصباح الى الصباح يدفع اليك بما تريد وبما لا تريد.
لم يعد المذياع رفيقاً لك كما كان . فقد انزوى في ركن مهمل من اركان الدار الاماندر ومن ظل يعيش ذكريات الزمن الذي مضى رغم مئات الموجات التي تبث عبر الاثير برامجها واخبارها , فقد تم سحب البساط من قدميه لتتجه انظارك الى الشاشة التلفازية تنشغل بها عيناك واذناك في متعة حضارية وجمالية لاتوازيها متعة اخرى. تجول بك الشاشة في كل مكان ,افلاماً روائية وافلاماً وثائقية وبرامج ثقافية واخرى مسلية , بل وتتعدد التخصصات فثمة ما يغذي عقول الاطفال من الافلام المخصصة لعالم الطفولة واخرى لعالم الكبار وغيرها للمتخصصين في مجالات المعرفة المختلفة . وها انت جالس على اريكتك تتطلع يعينين زائغتين على هذه القناة او تلك . مشبعاً رغبتك في التمعن والسماع بآن واحد. انها حضارة من نوع آخر . حضارة الشاشة التي مصدرها السمع والنظر , لا السمع وحده كما هو حال المذياع , فهي حضارة تحيلك الى جوانب المعرفة المتعددة وتلقي عليك ظلال انجازاتها في تنوع برامجها من الطب والعلوم والسياسة والاقتصاد والادب وسواها من المعارف القديمة والحديثة , وأنت تقيم للزمن معها وزناً من نوع آخر , اذ تعرف مسبقاً مواعيد كل برنامج من برامجها وتنظم وقتك لكي لايفوتك شيء من ساعات البث . كل شيء يتغير , ونحن نتغير ايضاً . ولن يبقى شيء على حاله , في ظل هذا التسارع الواسع والكبير في قنوات العلم والتكنولوجيا , وسواء لحقنا به ام لم نلحق , فنحن المتلقون في كل الاحوال
مقالات اخرى للكاتب