رنا صباح خليل
في قراءتنا للمنجز القصصي لهذه المجموعة القصصية للقاص جابر خليفة جابر ودخولنا الى عالمه المخيال تتعالق في حومة أديمه السردي أجواءً اسطورية مشغلها وهمها واقعي وهي بذلك ترفل بالخيال لنعيش المتعة عبر اسلوب يعج بالإدهاش والإسترسال المتقن في نقل الكثير من الجزئيات الظاهرة والمتخفية، فتبدو لنا وفقاً لبيئتها أمكنة توازن بين الحقيقة والحلم، تتجلى بأشكال معرفية جديدة توجب الإستعارة الشعرية والتدليل بها على ما نراه وما هو مخزون فينا. وهذا نجده في الصفحات الأولى، حين يثبت بعضاً من عنوانات مجموعته وكأنه يبغي ترك استنباطاتها حيث تتولى تشكيلها ذائقة المتلقي، لإظهار فعل إستحالة تجزئة الإشتغال منطلقاً من ضرورة عدم قطع ذائقة القراءة لدى المتلقي، تلك الذائقة التي تشيع داخل فناءات روحه المشبعة بالمتعة.
ثم يعرّفنا بالرجل الغريق فيضيف قدرة جمالية تثبتها موهبته في صياغة نصٍّ يمتلك قوالب شعرية بجملٍ معبأة، حادة، لمّاحة، وذلك حين يقول: (رجل حارب من الدائرة درجة، فتكالبت عليه تسع وخمسون وثلاثمائة درجة..) بعد ذلك بطريقة ما يرسم لنا ذلك الرجل (الرجل الغريق) الذي عاش سنين الحرب وتأثر بها كون قصص المجموعة في شريط ولادتها تمتد ما بين (1986 ـ 1995) مما أهلّها لأنْ تعكس حال النفس البشرية إزاء قضايا الحرب والمصير وهذا الإنعكاس الذي يتولَّد من خلال رؤية (ذاكراتية/خيالية) تجسِّم اتون النص، خاصة ان فضاء القصص يبقى عبارة عن لوحة مبطّنة بالحلم والرؤيا حيث أفلح القاص في تقريبها وتجسيدها على السواء. وهذا واضح، حين يقول: (فَمَنْ أملى هذه الأوراق ومَنْ كتبها؟ أهي حلم أم واقع؟ حقيقة أم خيال؟ قصة متنافرة متباعدة أم أُقصوصات متجاذبة متكاملة؟) يأتي بعد ذلك قراره الذي إتخذه عنوةً بعدما حوصر وتنكّرت أشياءه لفرحه، إذ تحترق روحه أو تغرق فتتمزق أحلامها وتطفيء جذوة الحياة المبتغاة له فيقرر الغرق أو ربما الحرب هي التي قررت له ذلك الخيار وربما يكون الغرق باعتقادي الشخصي إيماءً قصد منه القاص إظهار تكيّف الناس على العيش، رغم انهم غرقى في لجة المحن وفي أصعب حالات الضنك المعيشي، فذلك يكون ضمن أصول وراثية يحملها كل مَنْ جُبِل على الغرابة والتفرد. ففي ص 13 (أبرقت الشفرات الوراثية بسرعة فاقت سرعة الضوء، مسجِّلة ما سيحدث لصاحبها بعد الغرق وقدمت لمراكز توجيه الجسم وأعضائه وعضلاته معلومات وراثية وأخرى مكتَسَبَة عن كيفية التكيف مع الحياة المائية) بعدما توفرت لدى الغريق هذه القابلية على التكيف بحيث أصبح يرى ويسمع ببُعد أكثر عمقاً. وهنا يرصد القاص إيحاءاته بتمرد، بعبث، بجنون بلغة واقفة على جرفٍ هارٍ من أجل اقتناص لحظة بوح باذخة الدهشة فيتوق الغريق ليرى الناس على اليابسة فيجدهم قد اعتادوا على كم الأفواه الى أنْ تآكلت أفواههم ثم أُجبرت على التآلف فالتبعية للديناصورات، أي قادة الحروب، وبذلك نجد القاص يهيم في عوالم خيالية بعيدة عن الواقع قريبة منه في الوقت نفسه، إذ حمّل النصّ مدلولات عميقة لم يكشفها اعلام السلطة السابقة التي دجّنت الإنسان العراقي وجعلته يبارك جلاّده كلما وهبه من فتات موائده الفاخرة، وهذا المدلول واضح في قصة (خارطة وادي الجمل أيضاً)، إذ نجد السارد يصف لنا واديه وهو واقف على جبل من الانتهاكات والإخفاقات مأزوماً بحمى الضياع والتشرد، لذلك نرى الإفصاح والبوح محكوماً بالتشرذم والتشظي، رغم قدرته العالية على الوصف لثروات ذلك الوادي مع عدم قدرة الإستفادة منه من قبل ساكنيه بسبب الجهل والضياع وانصياع الناس لتحريكهم من قبل جهات عليا تقنعهم بأهمية وجود الروبوتات في حياتنا لإدامة الحياة، بل ويجب إكرامهم وتهيئة ما يحتاجون إليه وهم بالتالي المسيطرون، شئنا أم أبينا، حتى وإنْ تناقصت أعدادنا بسببهم. إلا ان القاص يثبت دائماً ان فك القيد رهين إرادة الإنسان ويعمّق هذه الفكرة باعتماده طريقة في سرده للبناء القصصي التي ترصد اهتمامها للمضمون (النصّي) أكثر من اهتمامها بالشكل الخارجي الموصوف، وذلك في ص 17: (ولم يُضِع الرجل وقتاً فأرسل عينه الجنوبية لتقصّي نوايا الجراحين ومعاينة صالة العمليات الكبرى، مستبقياً عينه اليسرى لتراقب بيقظة ما يدور حوله). وهذا بدوره يبدو جلياً من خلال الرغبة في إيصال الحدث الذي تناهى عبر اللغة الفنية والتوصيفية للسارد نفسه، فاستئصال الورم هو استئصال للحلم الذي رفضه عائداً للغرق في أعماق النهر، وأعتقد هنا ان هذا يعود الى إحساس القاص نفسه بعدم القدرة المطلقة في التعبير والكشف التوصيفي الجاد اذ نظراً للظرف الزمني الذي كُتِبَتْ فيه قصص الحرب يومذاك.
وفي قصة (جاذبية) حافَظَ القاص على أعلى مراتب الذروة الفنية في اعمام وتشكيل الطرح وتناميه مع البيئة الكونية في حل مشاكل الكرة الأرضية، من جفاف وتلوث وكوارث وحروب، ولنزوح القاص وهروبه من لا جدوى الواقع، نجده يسلك مسلكاً فنطازياً عبر أحلامه في جميع قصصه، ونجد ذلك واضحاً جلياً في قصة (المقعد الثامن)، إذ يوصف الحلم لإبراز ما عاناه الجنود في أرواحهم ومجيئهم الى جبهات القتال في محطة الشعيبة الصحراوية الكئيبة، كما يصفها القاص ويصف وجوه الجنود المغبرة المتورمة فيها. وضمّن حلمه رؤيا لمجموعة صبيان أثار نظره فيهم صبي يُطارِد شعلة من البنزين المتوهج في طريقها الى سيارة جيب متبرجة بالسلاح كي يقحم الرؤيا لدى المتلقي بما تثيره الحرب من جعل لعبة الكبار هذه وسيلة تسلية للصغار وفيها يتداخل الواقع والخيال، خاصة حين يذكر: (أثار الفراغ المطرز بالتوتر حماس زوج من طيور الحبّ الملونة كانا في القفص فعدلا عن موجة من القُبَل تعانقا خلالها بمناقير لينة الى موجات من النقر الحاد على قضبان القفص المذهّبة..).
ومن ثم يتوج خياله الخصب بما يتم من حديث بين الراكب، أي الجندي والمقعد الثامن عن تلك الرحلة وما فيها من المفاجآت والغرائب.
وفي قصة (الغاق) يسرد لنا ذكريات الطفولة ليبيِّن سمة المدينة التي نشأ فيها وترعرع مع اهتمام شبه مفتعل من لدن القاص لخلق حكاية فنية لربما توظف نفسها لتبيان مغادرة الطيور الجميلة لبيئتها في الجنوب بسبب الحروب وهو في ذلك أيضاً، يستعين بالحلم كمعادل موضوعي لما هو غير مألوف وطبيعي، أما شخصية (الخليل بن الرملة) في القصة، فقد إنفتحت بإشكالية مع العديد من الشواهد المرسومة فأعطى دلالة دينية تكرّست داخل إطار الزمن المرسوم، فما قالته الغَاقة العجوز يمثل شفرة مختزلة لخطاب سسيولوجي في سنوات الحرب، فكل فقرات التحول داخل القصة أشارت الى ذلك، رغم التموّج الواضح بين التناصّات الملحة بالمقدّس من جهة والموروثات، من جهة أخرى.
وفي قصة (ماراثون) يرسم لنا القاص واقعاً إجتماعياً لعوائل أُجبِرَتْ على الهجرة ومن ضمنها عائلته التي تركت البيت بحجراته الأربع ومراوحه السقفية وبلاطه وبالتالي ترك الزقاق وترك المدينة، أي البصرة. ومن ذلك نرى أنه خال ثمة طموحات تراود الشخوص وليس من منفذ ينتشلهم من واقع عقيم، وبذلك تبين رؤية تفتح أمام التأويل أبواباً لعرض تشاؤمية القاص ونظرته الرمادية تجاه الزمن القادم.
أما في قصة (السلحفاة) فنجد التشاؤم ذاته حين يقعد صبي مع جدته ليبيع السكائر بعدما إستشهد أباه وضاعت والدته وليس لديه سوى انتظار الملاك الذي ينتشله بعيداً عن الرصيف والغبار.
أما في قصة (الحصان: قائد العربة) وباقي قصص المجموعة فتحمل تفاصيل مكثفة ومختزلة على وفق صور مليئة بالتصورات والخيالات التي لمسنا فيها خيوط الواقع الحياتي الذي تشعبت فيه اضطرابات فكرية أعطت إنعكاساً واضحاً على بنية المجتمع مما جعل القاص يدفعها بعيداً عن المألوف باتجاه الغريب، إذ ان موضوعه يكتنفه الغموض فيتشبث السارد بالرؤيا لإستبانة فحوى النصّ، حين يريد أحد منتسبي دائرة ما التخلص من ملابسه بعدما تخلّص من وظيفته وهي وظيفة أمنية بلا شك في دوائر الأمن لدى النظام السابق. ومن هذه الموضوعة ينتقل بنا الى تبيان الرمز للحصان (قائد العربة)، أي الطاغية السابق وقد دلّلَ عليه بالسيجارة (چروت) والنظارة الشمسية، وبالتأكيد كانت حلبة السيرك حالة المجتمع التي عاش فيها الشعب العراقي، حين كان يقودهم، فزمام الأمور بيده والحلبة تحت إمرته والناس كأنهم دُمى قد تتساقط وتموت غير مهم. ثم يسفح على أديم الأدب القصصي سرداً عشوائياً عن واقع ملتبس محيّر خاصة حين أحاطه الناس وأثاروه، أي الطاغية صدام وأوصلوه للقمة ومن ثم سقوطه وتعثر قوائمه.
وفي قصة (قارئ الدم) نجد شاب يُسجن ويُظلم، فيتحدث عن حكايته مع الحائط الملطخ بدماء الناس الطازجة ليكون شاهداً على آلامه وآلام مَنْ حوله الذين كان منهم قارئاً ومثقفاً وعالماً وغير ذلك الكثير كما نعلم عن السجون، ثم يستعين القاص بالببغاء الصغيرة ليوظّفها رمزاً لبراءة الصبا لدى الفتيان الذين تأخذهم السلطات منذ نعومة أيامهم كي يتعلموا التجسس واقتناص الكلام بتجريد الببغاء من ألوانها الزاهية ومن لطافتها كي تكون أداة شوهوا دماغها الصغير لخدمتهم، ومن ثم يأتي دور الأب وهو القائد الرمزي هنا، كان يتلف الببغاء التي تتلكأ في عملها ويستبدلها بأخرى، وربما يقوم باستحداث ببغاوات مصنّعة كي يكبح جماح الحياة حتى يصل الى قمع الحديث أو التحدّث من دون صوت، والقاص بالحيوانات ليرمز الى ما هو أبعد من ذلك، فاستعان بالكلاب كي يكونوا صيادين ماهرين في خدمة القائد، وبالتأكيد هم القادة الصغار الذين تحت إمرته. والقاص بذلك جسَّد وقائع تجريبية تخص الحالة النفسية لديه وربما إقحام الحدث أكثر مما ينبغي حتى نجده وقد دخل ذات النص الى ما يقارب أسطرته. وهذا أمر طبيعي، إذ عاش المجتمع العراقي في ظرف يختنق فيه صوت الإنسان الحُر.
أما في (أصوات أجنحة جيم) فنجد صوتاً صارخاً في الوجدان يجسِّده دفتر المذكرات لذلك الجندي الذي فُقِدَ وبحَثَ عنه أقرانه فلم يجدوا له سوى تلك اليوميات التي دوَّنها لتكون صورة عنه تناجي مَنْ حوله وتوضح الهمّ الأساس، وهو الحرب، الذي يتشظى منه أكثر من خطاب، إلا ان هذه الخطابات أو الاعترافات تفترق من ناحية مع الهمّ الأساس وتلتقي به في خلوتها أو في ساعة من ساعات توحدها.
وفي (مقدمات باك الحكيم) ، نجد سحراً وسواحلاً وشواطئ وحُمرة صلصال تتوحد لتثبت الرسالة الأزلية من الآباء للأبناء، ومن الجد للأحفاد، هذه الرسالة صراط قاس وحكاية موحشة كما يصفها بألوانها: (الأحمر والبرتقالي والأصفر..) وهو نزوع نحو ملاحقة الأشياء بتفاصيلها، فيغوص في ألوانها وتأثيراتها ليمارس رؤيته ويعطي حيثياته، وفي ذلك يكون القارئ عارفاً بالسور المتين الذي يحيط بما لديه من خزين المعرفة المألوفة التي يقصينا خارجها. بخلق رمزاً له مبررات قدرة حمايته وفي لحظات تقهقره الداخلي مثلما يكون تابعاً كي يرمي تبعات عنف الظروف وقسوة الحياة على سواه..