تعتبر جريمة التهجير أحدى أبشع الجرائم التي يمكن أن تمارسها الحكومات ضد فئات دينية أوعرقية من أبناء شعبها في العصر الحديث حيث تهان كرامتهم وتنتهك أبسط حقوقهم الانسانية وتنتزع منهم هويتهم الوطنية وتتحقق من خلالها افراغ مساحات من الأراضي وتهيئتها للوافدين الجدد ويرتبط التهجير عادة بمسألة التنوع الديني والمذهبي والأثني والعرقي في بلد ما والذي يمثل سلاح ذو حدين فهو من ناحية يعتبر نوع من الأثراء الثقافي والحضاري للأمة ولكنه من ناحية أخرى قد يعتبر نقمة ولعنة قد تفضي الى حمامات دم تمزق النسيج الأجتماعي ويستتبعها بالضرورة تقسيم للبلاد ، ويبدو ان العراق قد أختص بالنوع الثاني بعد الأحتلال الامريكي فأصبح تنوع الفسيفساء العراقي عاملا سلبيا مهددا لوحدة البلاد في ظل صراع كبير بين الطوائف الكبرى على السلطة والنفوذ تدفع ثمنه الطوائف الصغرى . بعدما كان في معظم تاريخه مثالا للتعايش المشترك بين الأديان والطوائف .
حيث كان للطوائف العراقية نصيب الأسد من عمليات التهجير (داخليا وخارجيا) والتي طالت بالترتيب جميع الطوائف (الكبيرة والصغيرة) في العراق ضمن مخطط واحد يهدف الى افراغ العراق من الأقليات واعادة توطينها في دول أخرى أولا بحيث تبقى المكونات الأساسية فقط (السنة – الشيعة- الأكراد) وهو مايسهل عملية تقسيم العراق الى 3 دويلات (كردية في الشمال و سنية في الوسط وشيعية في الجنوب ) ثانيا بعد حمام دم عنيف يأكل الأخضر واليابس وهو مابدأت بوادره بعد سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة الاسلامية المتطرف في 10 -6-2014 ، وقد كانت الطائفة اليهودية في العراق أولى ضحايا موجات التهجير عبر مؤامرة بريطانية – صهيونية مع بعض ساسة العهد الملكي للضغط على يهود العراق واجبارهم على الهجرة الى اسرائيل بعد اسقاط الجنسية العراقية عنهم تضامنا مع فلسطين !!! وللتاريخ نقول بأن هذا الأجراء لم يكن سوى للتمويه والخداع وخسر به العراق أكثر مما كسب فلم يكن اليهود العراقيون من دعاة الصهيونية ولا من المؤمنين بمبادئها والأهم ان لادخل لهم بما جرى في حرب فلسطين والتي خسرها العرب لتواطأ قياداتهم السياسية مع الأستعمار البريطاني أنذاك فكان تهجير اليهود من العراق نوع من المكافأة للصهاينة الذين نجحوا بسرقة أراضي الفلسطينين بتواطأ بريطاني ثم قدمت لهم الحكومة العراقية وحكومات عربية أخرى هدية مجانية بمنحهم شعب جاهز يقيم فيها وكان هذا الأمر ايذانا ببدء فرط عقد التعايش السلمي بين الطوائف العراقية وضرب الهوية الوطنية العراقية الجامعة في مقتل . وتواصلت مأسي تهجير العراقيين الغير مرضي عنهم حكوميا في العهد الجمهوري ففي الرابع من نيسان عام 1980 قامت الحكومة العراقية أنذاك بحملة منظمة ضد الكرد الفيليين تمثلت في ابعادهم عن مؤسسات الدولة وتهجيرهم الى ايران بعد اسقاط الجنسية عنهم بحجة تبعيتهم الايرانية متناسين ومتجاهلين عدة حقائق أولها أن المناطق الحدودية بين الدول المختلفة غالبا ماتضم مجموعات سكانية تجمعها روابط الدم والعقيدة والقومية وهو أمر لايعني مطلقا التشكيك في أنتماء هذه المجموعات كلا الى بلده وان العراق كان طوال القرون الوسطى مسرحا للصراع العثماني الصفوي على أراضيه ناهيك عن وجود ترابط جغرافي ومذهبي وثقافي مع هاتين الدولتين تحديدا (ايران وتركيا) وهو ماتسبب بهجرة مئات الألاف من الترك والفرس للعراق لأغراض دينية وتجارية وانصهارهم في المجتمع العراقي ليكونوا مواطنين عراقيين مع قيام الدولة العراقية الأولى عام 1921 وهو مالم يؤثر مطلقا في عروبة العراق . فحتى ان كان هناك من أبناء هذه الأقلية من تورط في أعمال مشبوهة مع ايران أثناء فترة الحرب فهو اجراء لايبرر أن تهجر الأقلية بأكملها وتقتلع من جذورها لمجرد أن أحد المنتسبين لها قد خان بلده . ان سياسة العقاب الجماعي قد تسببت بتدمير العراق وألحقت الضرر البالغ بنسيجه الأجتماعي وأوجدت الثغرات التي نفذ منها المغرضون لأيقاع الفتنة بين أبناء الشعب الواحد .
واذا كانت الدولة العراقية الأولى (1921-2003) قد أجبرت اليهود على الرحيل وهجرت الفيليين فأن الدولة الثانية (2003- ) والتي لم يعرف المواطن العراقي في ظلها الأمان والأستقرار وعصفت بها دوامة العنف الطائفي التي فتحت الطريق أمام الملايين من العراقيين للهجرة داخل وخارج العراق خوفا على حياتهم من الجماعات المسلحة المتصارعة والتي أخذت زمام المبادرة من الدولة العراقية في القيام بعمليات التهجير فكانت الحرب الطائفية عام 2006 في بغداد أيذانا بعودة مسلسل التهجير القسري للعراقيين الذين أجبر الشيعة منهم على مغادرة الأحياء السنية تحت ضفط فيلق عمر لكونهم روافض وصفويين فيما أختص جيش المهدي بأجتثاث السنة من الأحياء الشيعية بأعتبارهم أمويين ونواصب لتتكون موجة نزوح عراقية كبرى بأتجاه دول الجوار (الأردن وسوريا تحديدا) قبل أن يطال عنف الجماعات المسلحة (القاعدة وأخواتها) المسيحيين العراقيين في بغداد والموصل لكونهم عملاءا للمحتل الصليبي وأحفادا للقردة والخنازير لتتلقفهم الدول الغربية ويتبعهم الصابئة واليزيديين ويتواصل فقدان العراق لأبناءه الأصليين .
لقد دفع المواطن العراقي ثمنا غاليا نتيجة لسياسات حكومية ظالمة أو طائفية جماعات مسلحة تمثل في سفك دمه واهدار كرامته ونفيه من أرضه ومصادرة ممتلكاته ( كان التهجير في الدولة الأولى يتخذ طابعا وطنيا!! وشكلا سياسيا وصيغة قانونية وباشراف حكومي لكنه يخفي في طياته دوافع عنصرية وطائفية أما التهجير في الدولة الثانية فهو تهجير يتخذ طابعا طائفيا وشكلا دينيا وباشراف خارجي ويهدف الى احداث تغيير ديموغرافي واعادة رسم خريطة البلاد) وهي أمور ما كانت لتحدث لو أننا نجحنا في اقامة دولة وطنية مدنية عادلة تحترم الحريات وتحافظ على حقوق الانسان وتنبذ العنصرية وتحارب الطائفية حتى يستطيع كل عراقي أن ينشأ ويعيش أمنا مطمئنا في بلده ، ان مايتعرض له ماتبقى من المسيحيين في الموصل وقبلهم التركمان والشبك الشيعة في تلعفر ومايحدث اليوم للسنة في البصرة (بدأت كل مجموعة عرقية أو دينية مهجرة بالأنتقال الى أماكن تربطها مع سكانها روابط مشتركة مذهبية أو عرقية حيث أنتقل المسيحيون الى الجيوب المسيحية الخاضعة لسيطرة البيشمركة وأقليم كردستان وتبعهم اليزيديين بينما فضل التركمان والشبك الشيعة الأنتقال الى الجنوب في الوقت الذي سيلقى فيه سنة البصرة وذي قار الترحيب الحار بهم من قبل دولة الخلافة التي دعت المسلمين الى الهجرة اليها في حال ما اذا قرروا ترك مدنهم وهو مايوحي بخطة محكمة لفرز المناطق طائفيا وعرقيا تمهيدا للتقسيم الشامل) يحاكي في مخيلتي محاكم التفتيش التي أجبرت المسلمين على الرحيل من اسبانيا بعدما صادرت المملكة الاسبانية ممتلكاتهم وأنكرت ارتباطهم بهذه الأرض بعد أجبارهم على اعتناق المسيحية ويعيد الى ذهني مافعلته الحركة الصهيونية عندما جمعت اليهود من كل أنحاء العالم لترسلهم الى فلسطين وتجبر سكانها الأصليين عبر مجموعة من المجازر الوحشية على الهجرة الى دول الجوار (سوريا ولبنان والأردن والعراق ومصر) لتغتصب أراضيهم وتنكر أنتماؤهم لها وتبدأ معها معاناة الفلسطينين في الداخل والشتات ليومنا هذا ، ولعل الوطن العراقي الخاسر الأكبر من هذه المؤامرة التي أستسلم لها أبناؤه أمام جبروت وظلامية التنظيمات والميليشيات المتطرفة التي دمرت العراق أضعاف مادمره المحتل الامريكي وكانت أداة طيعة في يد القوى الخارجية وهي تمارس دورها التخريبي الدموي تحت ستار الجهاد والمقاومة وحماية المذهب !!! وضعف الحكومة المركزية، ولنا بعد ذلك أن نتسائل اذا كان اليهودي العراقي (صهيوني) والكردي الفيلي والشيعي العربي (ايراني ورافضي) والتركماني (تركي وعثماني) والعربي السني (أموي ووهابي) والمسيحي (صليبي وكافر) فماذا بقي من العراقيين ومن هم العراقيين أصلا ؟؟؟
مقالات اخرى للكاتب