أَبداً، فالتجريمُ والحظر بالقوانين فقط لن يغيّر من الواقع شيئاً، وهذا ما أثبتتهُ التّجارب القديمة والحديثة، فمِن التّجارب الحديثة مثلاً، حزب الدّعوة الاسلاميّة والحزب الشّيوعي، فعلى الرّغم من كلّ قرارات التّجريم والحظر وعمليّات القتل والذّبح والاعتقال والمطاردة وغير ذلك الا انَّ الحِزبَين لازالا موجودَين ويمارسان نشاطهما السّياسي والحزبي على أَكمَلِ وجهٍ.
لقد تعاقبت على حُكم العراق منذ تأسيس الحزب الشّيوعي العراقي قبل أَكثر من (٧٠) عاماً ولحدّ الآن أنظمة سياسيّة مُختلفة حدّ التّناقض، وكلّها تقريباً جرَّمت الحزب وحظرتهُ من ممارسة ايّ نشاطٍ حزبيٍّ بقوانين وقرارات وغير ذلك، ومع كلّ هذا فقد ذهبت الأنظمة وبقي الحزب الى الآن.
تجرِبتان أخريَتان تخصّان الاحزاب الكرديّة في الجارتَين إِيران وتركيا، فمنذ إِنتصار الثورة الاسلامية وإقامة نظام الجمهورية الاسلامية قبل (٣٧) عاماً والاعلام الإيراني الرّسمي يكرّر عبارة (حزبَ مُنحَلَّ ديموكرات) وترجمتها (الحزب الديمقراطي المنحلّ!) في إشارة الى الحزب الديمقراطي الكردستاني المعارض! الا انّهُ لازال ينشط في كردستان إِيران وعلى مختلف الاصعدة!.
كذا الحال في تُركيا التي فعلت المستحيل للقضاء على حزبِ العمّال الكردي الا انّهُ لازال ينشط بشكلٍ واسعٍ في كردستان وعلى مختلف الاصعِدةِ لدرجةٍ انّهُ يهدّد بتقويض النّظام السّياسي!.
ولا دخل هنا بصحّة او خطأ الحزب ومبادئهِ وعقائدهِ وأسُسهِ، ولا علاقة بفسادِ او سلامةِ كلّ ذلك، فالتجارب التي ذكرناها وغيرها الكثير فيها من الاحزاب ذات العقيدة السّليمة وأُخرى ذات العقيدة الفاسدة، عِلماً بانَّ سلامة وفساد أَيّة عقيدة حزبيّة او حركيّة أَمرٌ يختلف عليه النّاس كثيراً جداً، فما أراهُ عقيدةً حزبيّةً سليمةً يراهُ غيري عقيدةً حزبيّةً فاسدةً، والعكس هُوَ الصّحيح، فما أراه فاسداً يراهُ غيري سليماً!.
امّا تاريخيّاً فاعتقد انّ من أَبرز النّماذج على هذا الصّعيد هي عقيدة الخوارج، التي ابتُليَ بها أَميرُ المؤمنين علي بن أَبي طالبٍ (ع) وهي المسمّاة بعقيدة التّكفير، فلقد قال (ع) لمّا قتل الخوارج فقيلَ لهُ: يا أميرَ المؤمنين، هَلكَ القومُ بأجمعِهِم، فقالَ: {كَلاَّ وَالله، إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلاَبِ الرِّجَالِ، وَقَرَارَاتِ النِّسَاءِ، كُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلاَّبِينَ}.
رُبما يسأَلُ سائلٌ ويقول؛ أولَم يقضي تجريم النّازيّة عليها؟ فلماذا لا ينطبق الشيء نَفْسَهُ على (حزب البعث) مثلاً؟!.
الجواب؛ إِنَّ النّازيّة حاصرها العالم كلّهُ فانتهت، مع التحفظ على جوهر الكلمة، ولو كانَ أَحدٌ قد تبنّاها لجدّدت نفسها بعدَ حينٍ، وانّما ظلّت عقيدة التّكفير تُجدّد نفسها لوجود من يتبنّاها بين فترةٍ وأُخرى الى ان ورِثناها اليوم بأسوأ اشكالِها والمتمثّل بالارهاب الذي يتغذّى عليها من خلال عقيدة الحزب الوهابي التكفيري وفقهاء بلاط (آل سَعود).
فمثلاً؛ هنا في الولايات المتّحدة الاميركيّة يُسأل من يتقدّم للحصول على الجنسيّة ما اذا كان قد إِنتمى أَو تعاون أَو حتّى تعاطفَ مع النازيّة في يومٍ من الأيّام حتّى اذا كان عمرهُ (١٨) عاماً!.
وفي كندا أُقيلَ مسؤولٌ كبيرٌ عندما نُشرت لهُ صورةٌ في الاعلامِ تعودُ لايّامِ صباه (أَربعينيّات القرن الماضي) وهو يقف على الرّصيف يتفرّج على تظاهرةٍ مرَّت من أَمامهِ مؤيّدةً للنّازية من دونِ أَن يبدي أَي شَيْءٍ يدلُّ على إِستنكارهِ لها أَو إِمتعاضهِ منها!.
لقد تعاونَ كلّ العالم للقضاءِ على النّازيّة، فلم يعد اليوم أَحدٌ يجرُؤ على الإفصاحِ عن او حتّى الإشارةِ الى تأييدها مثلاً او التّرويج لها او ذكرَها بِخَيْرٍ، خاصةً وأنّها مُتَّهمةٌ بجرائمَ حربٍ إِرتكبتها ضدّ ضحاياها ومِنهم اليهود الذين لازالوا يعتبرون انَّ تأييد النازيّة ولو بشقِّ كلمةٍ تعبيرٌ عن معاداة السّاميّة وهي جريمةٌ يُعاقب عليها القانون في كلّ دول العالم الحرّ والمتحضّر.
امّا البعث فلا يُمكن القضاء عليهِ بمجرّد تشريع قانون في مجلس النوّاب وقد تقمّص البديل عن نظامهِ البائد، بمن فيه (الدّيني) قِيمَهُ وشخصيّتهُ وأخلاقيّاتهُ بقدرٍ أَو بآخر؟!.
كيف سنقضي عليهِ ونصفُ الدّولةِ يُعشعشُ فيها أَيتامهُ بعدَ أَن غيّروا جلدَهم ولونَهم وزيَّهم، ليخرجوا من الباب ويعودونَ اليها من الشّبّاك؟!.
كما انّهُ لا يُمكن القضاء عليهِ وحوالي نصفُ العراقيّين يحنّون الى عهدهِ أَو على الأقل لا يَرَوْنَ فِيهِ ضَيْراً، وأَقصُد بهِم السُّنّة وأيتام الطّاغية الذّليل والكُرد وغيرُهم.
كما انّهُ لا يُمْكِنُ القضاءُ عليه وشبابنا يَستشهِدونَ في الجارةِ سوريا، وبذرائِعَ شتّى، دفاعاً عن نِظامٍ الحزبُ الحاكمُ فِيهِ يحملُ نفس الاسم!.
كما انّهُ لا يُمْكِنُ القضاءُ عليهِ وجُلُّ جيران العراق يتبنَّونَهُ ويستضيفون قياداتهُ ورموزهُ، ناهيكَ عن الإقليم!.
ولا ننسى انّ للحزبِ تنظيماتٌ في أَكثر من بلدٍ عربيٍّ منها لبنان والأردن والسّودان وغيرها!.
هذه الحقائق تُشيرُ الى انّ تجربتنا مع تجريم وحظر (البعث) تختلف عن تجربة العالم مع تجريم وحظر (النّازيّة) اختلافاً جوهريّاً ولذلك لا تجوز المقارنة!.
ولا أُخفي قولي هُنا انّهُ من المعيبِ حقاً أَنّنا وبعد (١٤) عامٍ من التغيير لازلنا نعتبر انّ أيتام الطّاغية يشكّلونَ خطراً على العمليّة السّياسيّة وعلى النّظام الدّيمقراطي، فَلَو كان البديلُ قد نجحَ في بناءِ دولةٍ حديثةٍ وعصريَّةٍ أَساسها المواطنة والحقوق والواجبات والعدل والانصاف وتكافؤ الفُرص وسيادة القانون، هل كنّا سنحسُّ بوجودِ أيتامِ الطّاغية الذليل؟!.
انّ ايّ مجتمعٍ لا يَحِنُّ الى الماضي الّا اذا كانَ الحاضرُ أسوأ مِنْهُ! فتأَمّل!.
تأسيساً على ذلك فانَّ الذي أُريدُ قولهُ هو أَنّنا لا ينبغي لنا انْ نُقارنَ حالَنا بحالِ تجاربَ أُخرى من دونِ أَن نأخذَ بنظرِ الاعتبار خصوصيّاتنا وواقعنا وغيرَ ذلك!.
*إِنْتَهى
مقالات اخرى للكاتب