اديب حسون
يشكّل التاريخ واحداثه ساحة مواجهة بين الشيعة والسنة على مدى قرون طويلة فكل يرى التاريخ من زاوية تتيح له التمسك بآرائه ومعتقداته في وجه الطرف الاخر والكل ينطلق من احداث وروايات حدثت اغلبها في زمن الاسلام الاول. والحقيقة ان تفسير الاحداث التاريخية وتوظيف الوقائع والروايات ظلّ عبئاً كبيراً على كل متابع لغياب عنصر هام في عملية التحليل التاريخي وهو منطق توقع الاحداث المقبلة كما يفرضها الواقع او ما يمكن التعبيرعنه بمنطق تعاقب الاحداث على اساس القراءة المستقبلية للمقبل من الاحداث انطلاقاً مما هو قائم بالفعل, ولعل ما جعل هذه الازمة تتفاقم هو ان منهج دراسة الاحداث التاريخية ظلّ مقتصراً على المنهج التقليدي في تقييم وتوثيق الروايات والاخبار على اساس علم الجرح والتعديل و"ملاحقة وتتبع" كل رواية وقول مما جعل الامرغاية في التعقيد فضلاً على ان يكون مقنعاً. كما لعب الاعتماد الكلي على الروايات المتعددة الآيات القرآنية غيرالحاسمة في دلالاتها دوراً كبيراً في تغييب المنهج الواقعي والتحليلي القائم على الترابط والتسلسل المنطقي للوقائع والظروف والملابسات المحيطة بحدث ما. لقد ضاعت جهود كثيرة في خوض غمار تحليل مصادر ودلالات الروايات والاخبار والاقوال الواردة بين اثبات ونفي بعيداً عن النظر في المفاصل والوقائع الحاسمة والمسلمات التاريخية والتي يفترض ومن خلال السياق المنطقي في النظر للاحداث ان يكون لها القدرة على تأطير التطورات وتحديد ملامح الاحداث اللاحقة. إن الحديث هنا ليس عن سنن تاريخية او محاولة اكتشاف قوانين ثابتة تحكم تاريخ الامم والدول من خلال مراجعة فلسفية إنّما الحديث هو عن فترة قصيرة جداً من الناحية الزمنية لكنّها تعجّ بتفسيرات متناقضة اثرت على مستقبل الاجيال اللاحقة بشكل كبير ومحاولة تشخيص وتحديد والاتفاق على ان احداث بعينها يجب ان تمثل مرجعاَ للحكم على الموروث الروائي. لذا فإن ما سيساعد في تشكيل صورة اكثر واقعية للمشهد التاريخي هو اعادة تشكيل هذا المشهد ليس اعتماداً على جملة المأثورات او الروايات لتفاصيل معينة بل من خلال تقسيم حقبة التاريخ المتنازع عليها الى مسلمات تاريخية والتي تكون محطات اساسية لصياغة شكل مفترض للمستقبل والى اخرى كأحداث تفصيلية بالشكل الذي تعنى المجموعة الاولى منها بالوقائع الكبرى والتطورات الثابتة والتي قد تكون ناتجة عن رأي عام اجتماعي او سياسي محدد او هي معطيات جديدة عظيمة التأثير في معادلة الاحداث , أما الثانية فتعنى بالروابط او الحلقات الاصغر بين تلكم الاحداث, وقد تهمل هذه الحلقات او يعتمد بعضها بعيداً عن اطار التأويلات بالقدر الذي توفره من توافق وانتقال مفهوم ومعلّل بين المحطات والثوابت التاريخية الاساسية. هذا المنهج سيساهم في تنقية اجواء الاحداث المختلف عليها من خلال وضعها في سياقاتها ومخاضاتها المتوقعة مما سيضيف ادوات جديدة لفهم التاريخ وحلحلة عقده المستعصية. واذا اضفنا الى ذلك فلسفة الاسلام في تربية تنشئة النفوس من خلال عملية طويلة للوصول الى ملكاتها المُثلى يظهر بشكل جلي احترام الاسلام للتعامل مع المنطق الاجتماعي والسياسي في سير الاحداث وتوجيهها. فالنبي محمد (ص) نجح في ترسيخ دعائم الاسلام وتأكيد مبادئه لانه عمل من خلال تحويل الاسلام الى جزء اساسي من هوية المجتمع وسلوكيات عبرعملية متدرجة وخطوات تراكمية امتدت لاكثر من عشرين سنة اسهمت في تشكل وعي مجتمعي ساهم بشكل كبير في الدفع بالاسلام خطوات جبّارة. يُتيح تطبيق هذا المنهج حلّ كثير من الامور الإشكالية في تحليل مواقف واسهامات الاشخاص لان الغالب في دور هؤلاء ان يكون تتويجاً او نتاجاً نهائياً لمخاض اجتماعي او سياسي معين يتفق او يختلف معه البعض وليس منتجاً او مولداً له من العدم. وبالتاكيد لن يحل هذا المنهج كل الاشكالات والاحداث التاريخية غير الواضحة لكنه سيضفي فهماً جديداً للكثير منها. بمعنى آخر انّه متى ما تم تحديد هذه الاحداث او الوقائع الحاسمة فانه يصبح من المجدي تأويل اواعادة النظر بالاخبار المعاكسة في مجرياتها لمالآت هذه الاحداث. ولا يمكن تصور ارتداد السياق التاريخي بالإعتماد على حوادث او روايات تفتقد القدرة على التعبئة الاجتماعية والسياسية. لأن اي محاولة لمعاكسة احداث رئيسية من دون حالة اجتماعية عامة ودافعة تعمل بذات الاتجاه الجديد ستكون سبباً لتشتت وانقسام المجتمع بدل ان تكون عامل مواءمة وانسجام. ولحسن الحظ فان هذه الاحداث الحاسمة موجودة والاجماع على حدوثها قائم لكن ما ينقصها هو الاعتراف بآثارها الاجتماعية ومردوداتها السياسية. وقد يكون سبب عدم الاعتراف هذا لدور امة المسلمين في صيرورة الاحداث وتصوير ان ارادة النبي والنبي فقط وبعيداً عن ارادة الامة ومن خلال ربط ذلك بالارادة الالهية هي ما يجب ان يتم الالتزام به, يعود الى ان اي محاولة لاستثمار "نطق او إنطاق" النبي بشكل يناسب هذا الرأي او ذاك ستصبح ايسر و توظيفها سياسياّ هو اكثر فائدة وجدوى من محاولة تفهّم اتجاهات المجتمع الاسلامي واعتبارهذه الاتجاهات مدخلاً في التشريع, لذا فالافضل ان يتم تجاهلها تماماً واعتبار المجتمع مجرد متلق "للفروض" الالهية ومكلّف بادائها بلا قيد او شرط. ويظهر مما سبق ان تطبيق منهجيات جديدة في دراسة الحدث التاريخي (سواء كان رواية , حديث او موقف ) ليس ضرورة فحسب بل هو حاجة لاستيعاب كل الوجوه والصور الممكنة لاسباب ودوافع ونتائج حدث ما وتحديد احجام المسؤولية للعناصر الفاعلة فيه. المنهج الجديد سيقوم بدراسة نماذج من الاحداث المهمة على الاسس التالية: - امكان تصنيفها تحت سقف "محددات سياقية" لمجرى تطور الاحداث. - ملاحظة ما اذا كانت باتجاه التوجه الاجتماعي او السياسي العام. - النظر الى مدى انسجامها مع فلسفة الاسلام في تغليب الاقناع على الفرض. وفي الحلقات القادمة سنناقش تطبيقات هذا المنهج على وجهتي النظر الشيعية والسنية في معالجة القضايا الاساسية واثر ذلك في تشكّل الفرزالسياسي بينهما