ان الحديث عن التسامح هو حديث ينبع من العقل الفردي وينتهي بعقل الجميع أي بمعنى يبدأ بالانسان الفرد وينتهي بالمجتمع الكبير وجوهر هذا النمط من الحديث هو النضج الانفعالي والتوازن الفكري والايمان الذي يستمد قوته من التقوى والعمل الصالح للفرد وقد شهد التطور البشري مراحل مد و جزر وهناك العديد من النظريات التي تشرح كيف تعلم الانسان البدائي التعرف على نفسه وعلى الطبيعة والكائنات الحية الاخرى من حوله وهنا لا أريد الخوض في هذه النظريات وانما أريد فقط ان اقول ان البشرية تطورت عبر السنين وتعلمت من التجارب وهكذا ترك الاسبقون ارثهم الانساني والحضاري الى اللاحقون من بعدهم. إن ما يجب تسليط الضوء عليه هو أن أهمية التسامح في الدين الإسلامي تتمثل في كونه ذا بعد وُجودي أي أنه ضروري ضرورة الوجود نفسه. ولتوضيح ذلك يمكن الإلماع إلى أن سنة الوجود قد اقتضت أن يكون وجود الناس على الأرض في شكل تجمعات بشرية وهي وإن اتفقت في ما يجمع بينها من وحدة الأصل والحاجة إلى التجمع والحرص على البقاء والرغبة في التمكن من مقوّمات الحياة والسعي في إقامة التمدن والعمران إلى الارتقاء والتقدّم فإنها قد تباينت في ما تتفرّد به كل مجموعة من خصوصية عرقية ودينية وبيئية وثقافية. وقد صرّح القرآن بهذه الحقيقة الوجودية فقال: (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).. ذلك نتبين أن التنوّع بين الناس أفراداً وجماعات ما كان انحرافاً ولا شذوذاً ولا مروقاً بل كان من طبيعتهم البشرية ومن أصل خلقتهم الآدمية، فهو ظاهرة ضرورية اقتضتها الفطرة الإنسانية واستلزمتها النشأة الاجتماعية.
انواع الظلم
ونحن نعيش في عالم اليوم الذي يشهدُ أبشع أنواع الظلم والايذاء والعنف والعدوان حيث تناقصت قيمة الانسان الذي جعله الله في أحسن تقويم الى أدنى الدرجات في تاريخ الانسانية أين نحنُ من قيم السماء في العدالة والتسامح والصفح التي ظلّ الخالق يأمرنا بها على مدى أكثر من عشرين قرناً من الزمان لماذا لم نستطع أن نحول قيم الفضيلة والمحبة والتسامح الى آليات عملية سهلة التطبيق في مجتمعاتنا العربية الاسلامية؟ صحيح ان الكتب والصحف والرسائل التي نتداولها منذ قرون وبكل لغات العالم، تزخرُ بالحديث عن هذه القيم ونحن نتداولها وننظر فيها بأحلى الكلمات وأجملها لكنها مع الاسف ظلت حبيسة هذه الاوراق دون أن تتحول الى برامج تدريبية ومناهج للعمل الدؤوب على تطبيقها عمليا على مستوى السلوك والتصرف.. لماذا هذا التحول الكبير في السلوك ولماذا لا نتعظ بالارث الانساني والحضاري للاسبقين.
عنف وارهاب
يبدو ان هناك علاقة طردية بين الفقر والتخلف من جهة وبين العنف والارهاب من جهة اخرى فكلما كان البلد غارقا في الجهل والبعد عن المعرفة، كان قريبا من التهيئات والشعوذة والغلو في الغيبيات المفرطة بحيث يصبح الانسان ككتلة بيولوجية فارغة من العقل وبالتالي يصبح كالوحش الكاسر يقتل ويدمر تحت مسميات وعناوين عديدة.
التسامح في القوانين والأنظمة سواء من حيث صياغتها التشريعية كنص قانوني معلن أو من حيث آليات التنفيذ بمختلف مستوياتها وواضح أن القانون المتسامح مع الانحراف والذي يطال المجتمع الذي يحتكم إلى هذا القانون؛ ليحميه من العدوان (الانحراف) ليس قانونا متسامحا بحال حتى وإن تراءى للبعض أن خفض سقف العقوبات الجنائية تسامحا.
ان المجتعمات التي تتمتع بنعمة التسامح والرحمة والالفة، مجتمعات تتطور وتزدهر وترقى الى اعلى الدرجات وبعض الدوائر التي تتحكم في منطقتنا فقدوا هذه الصفة الحميدة، هم من يتحملون مسؤولية ما وصلنا اليه من فقر وعوز وتخلف.
التسامح الديني يعدّ أرضية أساسية لبناء المجتمع المدني وإرساء قواعده، فالتعدّدية والديموقراطية وحرية المعتقد وقبول الاختلاف في الرأي والفكر وثقافة الإنسان وتقدير المواثيق الوطنية واحترام سيادة القانون، خيارات استراتيجية وقيم إنسانية ناجزة لا تقبل التراجع ولا التفريط ولا المساومة، فالتسامح -إذن- عامل فاعل في بناء المجتمع المدني، ومشجع على تفعيل قواعده.
احترام متبادل
وهكذا، نستخلص أن التسامح يستوجب الاحترام المتبادل، ويستلزم التقدير المشترك، ويدعو إلى أن تتعارف الشعوب وتتقارب، ويفرض التعامل في نطاق الدائرة الموضوعية من دون المساس بدائرة الخصوصية من غير إثارة لحساسيتها، وانتهاك لحرمة ذاتيتها، وهي دائرة تبادل المعارف والمنافع والمصالح المشتركة الفاعلة التي يعود مردودها بالخير على الجميع يقول الشيخ محمد عبدة ( ان الشيء الذي تميز به الاسلام عن غيره احترامهُ للعقل ودعوته للنظر والتفكير، وحثه على العلم والتعلم واشادته بالعلماء واصحاب العقول وحملته على الجمود والجهل، وتمجيده للقراءة والكتابة والقلم ، منذ أول آيات انزلت من القرآن ).
مقالات اخرى للكاتب