لا أدري مدى صحة المعلومة التي راجت قبل أيام وأقامت الدنيا ولم تقعدها، أعني أن يكون العراقي هو الأذكى بين العرب، متقدما على المصريين واللبنانيين والمغارية والخليجيين. هي معلومة مثيرة للانتباه، وقد ذكرتني فورا بتلك الكناية التي شاعت في الثمانينيات عن الذكي الذي صار، من فرط ذكائه، غبيا، إذ كنا نقول حينها: من كثر اللواتة صار زوج، مشيرين لمعنى فلسفيّ ربما مستقى من تعريفات المنطقيين الطريفة كقولهم: الوجود المحض عدمٌ محض أو :السعادة المطلقة تعاسةٌ مطلقة، وعلى هذا يمكن القول أن الأذكى قد يكون الأغبى والعكس صحيح أيضا.
ولكن دعونا من هذه السفسطة وتعالوا معي لتلك المعلومة التي قصّها علينا أستاذ في كلية اللغات كان قد أعيد من فرنسا بعد حرب الخليج الثانية من دون أن يستكمل مناقشة أطروحته في الدكتوراه، لقد لاحظ الأستاذ تخوفنا من صعوبة اللغة الفرنسية فما كان منه سوى أن حدثنا عن تجربة علمية أجرتها الجامعة التي كان يدرس فيها، حيث أخضعوا مجموعة من الطلبة ينتمون لجنسيات عربية وعالمية متنوعة لاختبارات دقيقة لمعرفة أسرعهم في تعلم الفرنسية، وكانت المفاجئة التي أدهشت الباحثين أن الطلبة العراقيين فازوا وتفوقوا على المغاربة والمصريين والشاميين والأفارقة والانكليز. ذلك الأستاذ قال يومها بفخر أن الفرنسيين دهشوا وحاروا في تفسير الأمر إذ أن العراق لا يقع ضمن دائرة تأثيرات الثقافة الفرانكفونية وذاكرته فيها ضئيلة جدا قياسا بغيره.
نعم، لدى العراقي شبه يقين في تفوقه الذي يصل لحد التبجح واحتقار الآخرين ودليله الفولكلوري على ذلك عمق حضارة بلده والآثار العظيمة التي خلفتها. لا بل أن هذا الشعور بات راسخا في الضمير بحيث أثر في رواج أو ربما اختلاق مرويات عربية ذات لبوس إسلامي تميز أرض السواد عن غيرها كقول الرسول (ص) :" قال الغنى واليسار: أسكن مصر فقال الذل : أنا معك، قال السخاء: أسكن الشام فقالت الشجاعة: أنا معك، وقال العقل: أسكن العراق فقالت المروءة وأنا معك". ليس هذا حسب فقد ورد عن سليمان بن يسار أنه قال: كتب عمر بن الخطاب إلى كعب الأحبار أن اختر لي المنازل، فكتب إليه يا أمير المؤمنين أنه بلغنا أن الأشياء اجتمعت، فقال السخاء: أريد اليمن. فقال حسن الخلق: أنا معك. وقال الجفاء: أريد الحجاز. فقال الفقر: أنا معك. قال البأس: أريد الشام. فقال السيف: أنا معك. وقال العلم: أريد العراق. فقال العقل: أنا معك. وقال الغنى: أريد مصر. فقال الذل: أنا معك. فاختر لنفسك يا أمير المؤمنين، فلما ورد الكتاب على عمر قال: العراق إذن، فالعراق إذن".
ولكن مهلا أيها العراقي الجذل بذكائك فثمة أسئلة عليك التفكير بها برهة وأتمنى ألا يزعجك الأمر: ما معنى أن تكون، يا صاح، ذكيا جدا ولماحا و"تلكفها وهي طايره"، بينما أنت لم تنجح حتى الآن في معرفة هويتك الجامعة؟ لماذا فشلت فشلا ذريعا في بناء دولتك الحديثة مثلما فشلت سابقا في الاحتفاظ بريادتك؟ ما معنى أن تظل ميالا للاقتتال مع نفسك منذ أن وجدت في هذه الأرض؟ حدثني يا صديقي عن فترة في التاريخ استقررت فيها و"استاطنت" و"استجنيت" تاركا نزقك وثوراتك وتنمرك على السلطات؟ لماذا لم تتوقف عن استدراج الفوضى لربوعك لتجعلها شريكا أبديا لك؟ كيف أمكنك الجمع بين المتناقضين، الميل للثورة وعبادة الطغاة؟
بعد ذلك لي أن أسألك: إن كنت الأذكى بين أخوتك فلماذا إذن لم تنجح في انتزاع محبتهم؟ إن كنت ذكيا بشكل فائق فلماذا تحب البكاء والنشيج وكل ما هو سوداوي مأساوي و"مصخم وملطم"؟ ألأن الأذكياء معقدون بالضرورة أم لأنك انشغلت بتأملاتك الذاتية ولم تنتبه لأي شيء عملي يجلب لك السعادة؟
بعيدا عن هذه الأسئلة، قريبا منها أقول أن العراقي ربما كان ذكيا جدا بمقاييس العلم، لكن ذلك ليس مهما كي يكون ناجحا وسعيدا في حياته الاجتماعية، فكم من ذكي انتهى به الأمر إلى "الشماعية" أو إلى "السجن" أو حتى إلى المقبرة باكرا، كم من عبقري صار طاغية وكم من عقل لامع انتهى ليكون مشعوذا!
نعم، العراقي فائق الذكاء ربما لكنه للأسف ظل طوال تاريخه مصداقا للكناية القديمة:"من كثر اللواته صار زوج" فتأمل أعزك الله.
مقالات اخرى للكاتب