لايهم اسم الفرعون الذي ذكره القرآن الكريم في قوله عز وجل: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: 29].
يهمنا مقولته التي اسست لما بات يعرف بالاستبداد الفرعوني، وهو الجذر الراسخ والاساس الذي ينبني عليه الاستبداد، ليس في الحكم والتسلط وحده، بل في جميع مناحي الحياة.
وهي ان كانت (المقولة الفرعونية) في افراد المجتمع تختلف درجة حدتها من فرد الى اخر تبعا لعمله ووظيفته ودائرة مسؤوليته، فإنها تكون شديدة البروز والوضوح والتجلي في افعال الحكام المستبدين والطغاة على مر التاريخ.
المثل الفرعوني في الاستبداد والتأسيس له، لم يقتصر على الفترة الزمنية التي ذكرها القرآن الكريم، بل هي زمن ممتد الى ما شاء الله حتى يرث الارض وما عليها.
وهي لا تقتصر على التفرد في الرأي كتأسيس اولي لها، بل تمتد الى رفع الحاكم المستبد لنفسه وعند اتباعه الى مرتبة من القداسة والعصمة، وحتى الالوهية في احيان كثيرة، وما على الاتباع وعامة الناس الا بالتوجه لهذا الصنم.
ما الذي اسست له تلك المقولة الفرعونية؟
اذا استقرينا تجارب التاريخ للامم والشعوب نجد انها اسست للشيء الكثير، من ذلك:
المتسلط المستبد، الأنا الغاشمة، الدكتاتورية البائسة، الكبر والغرور، العنف، الفكر القمعي، رفض النظر إلى الأمور نظرة جادة أو هادفة، وهي ايضا ترسم فكرًا مخيفًا، سطحيًا، تجاه المخالف، مهما كان هذا المخالف، خوفا من تأثيره على عقول وعواطف الآخرين..
وهي ايضا تؤسس لأحادية الرؤية من خلال ممارستها للحجر على العقول والآراء، وتكميم الأفواه.
سياسة ما اريكم الا ما ارى، على مستوى الافراد العاديين او الحكام المستبدين، تقوم على اساس آخر يترافق معها ليشيد بنيان الاستبداد، وهو الكذب من قبل المستبد، والتكاذب من قبل الاتباع والمحيطين في عموم المجتمعات الذين يجدون انفسهم مكرهين على تصديق ما يقوله المستبد، بسبب من آلية الفرض والقسر التي تمارس ضدهم من قبل المستبد.
يمكن التفكير بنماذج كثيرة للاستبداد الذي ارست دعائمه تلك المقولة الفرعونية في الكثير من المجتمعات منذ بروز الدولة وحتى الآن.
ففي حياة المسلمين يمكن ذكر الدولة الاموية والعباسية وكيف تحولت الى ملك عضوض وسلطان مستبد غاشم، نكل بجميع الفئات والطوائف من المسلمين الذين امتد سلطانه عليهم، ويمكن لنا ذكر النموذج الستاليني في الاتحاد السوفياتي سابقا، الذي احتكر التمثيل الوحيد للطبقة العاملة والتحدث باسمها، وحارب بشراسة كل ممارسة خارج إرادة الحزب، وكل مبادرة خارج مخطط الحزب، ولم يسمحوا بأي فكر مخالف لما تراه قيادة الحزب، وهو ما انتهى بالتنكيل بالمعارضة اليسارية كما تم التنكيل بكل أشكال المعارضة الأخرى خارج الحزب.
ويمكن ذكر الاستبداد الهتلري في المانيا وما قاده من كوارث مدمرة على العالم بحربه العالمية الثانية، وكذلك مجازر الخمير الخمر في كمبوديا، وفي مجتمعاتنا في هذا العصر تطول الامثلة من صدام حسين الى معمر القذافي وما بينهما.
ويمكن ايضا ذكر االنموذج الاردوغاني في تركيا رغم كل التبدلات السياسية في العالم، الا انها تلك التبدلات وبشكل من الاشكال ساهمت في عودة الكثير من النظم الاستبدادية وطغيانها على شعوبها.
إن الطغيان وتكريس الاستبداد يحكمه قانون عام في كل زمان ومكان، فهو يعتمد في انتزاع الطاعة من أفراد الشعب، سياسة العصا أو الجزرة، أو كليهما معا. وبين هذه وتلك أو بالإضافة لهما، يستخدم المستبد أساليب التسويغ، والكذب، والتحايل، والخداع، والتضليل، والإغراء، والإغواء. وينوع في العصا التي يستخدمها، وطرائق استخدامها، فهذه للتخويف والإرهاب، وأخرى للتعذيب، وثالثة للقتل. والجزرة أنواع وأشكال، أولها الهبة والمنحة والعطية قلت أو كثرت، والمنصب صَغُرَ أو كَبُر، وأعلاها الحظوة.
مقولة فرعون المؤسسة للاستبداد، لا حل او علاج لها الا من خلال الضد القرآني الآخر الذي يرد في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [الرعد:11].
وهو الضد الذي افتتحه الله عز وجل في مفتتح تنزيله القرآني على نبيه الاكرم (صلى الله عليه واله وسلم) بقوله عز من قائل (اقرأ باسم ربك الذي خلق) وهي القراءة الواعية للنفس ومجاهدة نوازعها السلبية ثم الانتقال الى القراءة في الآفاق والكون وتدبر ما فيهما عن معرفة كي لا يكون للاستبداد موطأ قدم في حياتنا، اتباعا او متبوعين.
مقالات اخرى للكاتب