يُبنى الجدال المفضي إلى الشقاق على نهج نظامي يخضع لطرق مسيّرة ودراسات متكاملة تقوم على فرض الآراء البعيدة عن الواقع المألوف، ولذلك ترى أن من يدخل هذا الصرح لا يكون لديه الميل الصادق في إبداء رأيه بقدر ما يجعل عقيدته تابعة لما يقرره الأسياد الذين يزعمون أن للقرآن الكريم الدور المباشر في الدعوة إلى القتال غير المبرر ونبذ السلم، وكأن اتخاذ الطريق السالكة إلى المبتغى لا يمر إلا عن هذا الإدعاء، ولأجل أن نبين هذا المعنى على أتم وجه يجب أن لا نغفل النتائج السلبية الموضوعة من قبل أولئك الناس الذين يدعون إلى هذا الاستحسان الناتج عن عدم المسؤولية، ومن أهم تلك النتائج ارتباط هذا النهج بجذور متداخلة مع نوع عقيم من المصادر غير الموثوقة، وما يؤسف له أن جل هذه المصادر تعتمد على آراء مجردة عن الصدق لأناس لا يفقهون أسرار الكتاب المجيد، ولهذا انتشر بين أوساطهم أن الشريعة المقدسة لا يمكن أن تستقيم إلا باتخاذ السبل الباطلة، لأجل أن يتم استقرار الحياة على الإتجاه الذي يناسب أفكارهم.
ولو تأملت هذه الفرية ستجد أن الأمر كذلك أي إن القرآن يدعو إلى القتال بل في كثير من الأحيان يدعو إلى بدء القتال، ولكن الفرق بين الحقائق الثابتة في نهجه وبين آراء أولئك الناس الذين أشرنا إليهم يتجسد في دفعهم للحقائق والعمل على جمع الآراء المتفرقة دون النظر إلى ما يميز الحق عن الباطل، علماً أن الآراء المعتبرة تكمن في عدم الخروج عن الغايات التي شرعت لها الوسائل الصحيحة، وهذه من المسلمات البعيدة عن تأثير الجدال، ولعل هذا هو السبب في مراعاة المصالح المتفرعة على الحالات المستطردة التي تتطابق مع إرادة الإنسان والحفاظ على بقاء نوعه، وأنت خبير من أن الاقتصار على هذا الأمر لا يمكن أن يقوم إلا على الحرب المشروعة، ويكون القتال هو الصفة السائدة في الأرض، أما السلم فقد يصبح أقرب إلى المنحى المجانب للطبيعة البشرية وما يلحق بها من إكراه لا تود الاستقرار على مجاراته وإن كان هذا المعنى لا يُتقبل من قبل بعض الناس وذلك تبعاً إلى خفاء نتائجه.
من هنا يظهر السبب في تجهيز الإنسان بمجموعة من القوى التكوينية وجعلها خاضعة للدفاع عن الحق الذي يرى مدى تناسبه مع تكامل الحياة والعمل على نشر العدل فيها، وهذا ما يضعه على مقربة من الوسائل الموصلة إلى المقاصد التي أمده الله تعالى بها مع ملاحظة عدم استعمال تلك الوسائل في أمور تُخرجها عن المقررات الفعلية أو الالتزامات العقائدية التي يرتضيها الشارع، وكذا عدم تمسكه بالمنافع المؤقتة وذلك لأجل وضع حد بينه وبين الحصول على الجزاء المرتبط بالعبثية المنهي عنها، وبهذا يكون اعتماد الوجه الثاني لا يقرر الرؤية الإيجابية بين الطرفين، وعند الالتزام بهذا الإتجاه من قبل الطرف الآخر فلا مناص من الابتعاد عن طرح الأحداث التي ارتضاها أصحاب الحق واتخذوها طريقاً للوصول إلى الغايات المعدة لهم، ولا يخفى على ذوي البصيرة من أن هذا الأمر لا يتأتى إلا لمن علم بنوع المهمة الملقاة على عاتقه، وكما ترى فإن الوسائل لا يمكن أن تكون ميسرة في جميع الأوقات للدخول إلى هذا الميدان ما لم يتم الحصول على التفقه في الدين، وبهذا تظهر النكتة في الإشارة إلى قوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) التوبة 122.
وبناءً على ما تقدم يتضح أن التفقه في أمور الدين لا يجانب الدخول الضمني في المصاديق المتفرعة على المفهوم العام الذي يحتويها، مما يجعل الأثر الراجح يلازم الكبرى في جميع الحالات، وبالقياس إلى هذا التقييد نستطيع القول إن العلم ودراسة شؤون القتال لهما الدور الريادي في إعلاء جانب الحق وإن كانت الظروف غير مؤاتية للتمكن من النصر، وهذه الأسباب تجعل دور الخصم يقترب من الضعف والانكسار في جميع تحركاته على الرغم من الكثرة العددية التي يملكها، وهذا المشهد يضع الإنسان الباحث عن الحقيقة أمام الدافع اليقيني الذي لا شبهة فيه إلا الاعتبار الشامل لدخول مصاديقه ضمن سيادة مفهوم متكامل يلتزم بالاعتماد على نوع التفقه المنشود من قبل الإنسان دون الابتعاد عن الشرط الذي بيناه مع مراعاة تجنب الدوافع التي يركن أصحابها إلى الأرض لأن ذلك يقود أتباعه إلى النتائج التي لا يحمد عقباها.
من هنا نفهم أن الركون إلى الأرض لا يمكن أن يتحقق من خلاله النصر المراد من القتال، وإن تم ذلك فإنه لا بد أن يتلاشى بزوال المؤثر المؤقت الذي انتصر أصحابه بموجبه، ومن الأمثلة على ذلك ما نشاهده اليوم من القمع المتكرر على أيدى الطغاة من الحكام بالإضافة إلى التمكن الجائر المصاحب لهذا العمل وما يلحق به من كسب غنائم الحرب وما إلى ذلك، وعند الوصول إلى هذه المرحلة فههنا يتطلب الأمر اتخاذ الوسائل المناسبة للتحريض على القتال من قبل القائد المكلف بإدارة شؤون الحرب، أما في حال فقد المعنى المقرر للتحريض فإن القانون الآخر سوف يأخذ الأجواء على القانون الحقيقي الذي وضع لأجل الحصول على النصر، ولهذا كان البيان القرآني مترتباً على نوع من التحريض الموجه من الله تعالى للنبي (ص) وذلك لأجل أن يعلم إن عدم تفقه الخصم في أمر القتال سيكون سبباً مباشراً للتمكن منه وإعلاء كلمة الحق، وهذا ما يظهر من قوله تعالى: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون***الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) الأنفال 65-66.
فإن قيل: ما هي الكيفية التي يحرض النبي (ص) المؤمنين من خلالها على القتال؟ أقول: التحريض: هو الحث أي إن الله تعالى أمره أن يحث المؤمنين على القتال وذلك بواسطة إلقاء الخطب التي تثير في نفوسهم الحماس والمتضمنة للترغيب والترهيب وكذلك يبين لهم المبادئ الأولية لكسب المعركة، وهذا ما يجب على القائد فعله في كل زمان ومكان من أجل أن يجعل الجند على يقين من النصر وأصل الباب مأخوذ من الحرض، وهذا المصطلح يعني القرب من الهلاك، كما في قوله تعالى على لسان إخوة يوسف: (قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين) يوسف 85. فإن قيل: بناءً على هذا المعنى يصبح التحريض فيه نوع من الهلاك؟ أقول: هذا ما يظهر من اللفظ ولكن عند الرجوع إلى أصل الوضع يتضح أن التحريض هو إزالة الهلاك، لأن هذا من المصطلحات التي تأخذ المعنى المضاد لوضعها، كما هو الحال في إطلاق لفظ البصير على الأعمى أو السليم على اللديغ، أو بالأحرى هو من المشتركات التي تؤدي إلى نفس المعنى بين المتقابلين.
فإن قيل: إذا أخذنا بهذا الوجه تكون المعاني مبهمة على المتلقي وبالتالي يحق له أن يجعل أي من المتقابلين يقوم مقام الآخر فكيف الجمع؟ أقول: لا يذهب إلى هذا الظن إلا الذي يريد أن يفتري على اللغة، وذلك لأن السياق يبين المعنى دون لبس أو إبهام، كما هو الحال في البشرى التي تستعمل للخير وللشر باعتبار تأثيرها في بشرة الوجه، ومن الطبيعي أن يظهر على الوجه إما السرور وإما الحزن، وعند تأمل الآيات التي تشير إلى كلا المعنيين نجد أن الأمر في غاية الوضوح، ولهذا أشار تعالى للأول بقوله: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) البقرة 25. وكذا قوله: (وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به) آل عمران 126. وقريب منه الأنفال 10. ومنه قوله: (يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة) يوسف 19. ويشهد للثاني قوله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً) النساء 138. وكذا قوله: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم) آل عمران 21.
هذا ما لدينا وللمفسرين في الآيتين آراء:
الرأي الأول: قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: أعيد نداء النبي (ص) للتنويه بشأن الكلام الوارد بعد النداء وهذا الكلام في معنى المقصد بالنسبة للجملة التي قبله، لأنه لمّا تكفل الله له الكفاية، وعطف المؤمنين في إسناد الكفاية إليهم، احتيج إلى بيان كيفية كفايتهم، وتلك هي الكفاية بالذب عن الحوزة وقتال أعداء الله، فالتعريف في (القتال) للعهد وهو القتال الذي يعرفونه، أعني قتال أعداء الدين. والتحريض: المبالغة في الطلب، ولمّا كان عموم الجنس الذي دل عليه عموم القتال يقتضي عموم الأحوال باعتبار المقاتلين بفتح التاء، وكان في ذلك إجمال من الأحوال، وقد يكون العدو كثيرين ويكون المؤمنون أقل منهم، بين هذا الإجمال بقوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) وضمير (منكم) خطاب للنبي (ص) وللمؤمنين، وفصلت جملة: (إن يكن منكم عشرون صابرون) لأنها لمّا جعلت بياناً لإجمال كانت مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأن الإجمال من شأنه أن يثير سؤال سائل عما يعمل إذا كان عدد العدو كثيراً، فقد صار المعنى: حرض المؤمنين على القتال بهذه الكيفية، و (صابرون) ثابتون في القتال، لأن الثبات على الآلام صبر، لأن الصبر تحمل المشاق والثبات منه، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا) آل عمران 200. وفي الحديث: لا تتمنوا لقاء العدو وأسألوا الله العافية فإذا لقيتم فاصبروا.
الرأي الثاني: يقول الطباطبائي في الميزان: قوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن) إلخ، أي إن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين من الذين كفروا، وإن يكن منكم ألف صابر يغلبوا ألفين من الذين كفروا على وزان ما مر في الآية السابقة، وقوله: (وعلم أن فيكم ضعفاً) المراد به الضعف في الصفات الروحية ولا محالة ينتهي إلى الإيمان، فإن الإيقان بالحق هو الذي ينبعث عن جميع السجايا الحسنة الموجبة للفتح والظفر، كالشجاعة والصبر والرأي المصيب، وأما الضعف من حيث العدة والقوة فمن الضروري أن المؤمنين لم يزالوا يزيدون عدة وقوة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقوله: (بإذن الله) تقييد لقوله (يغلبوا) أي إن الله لا يشاء خلافه والحال أنكم مؤمنون صابرون، وبذلك يظهر أن قوله: (والله مع الصابرين) يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى الإذن، وقوله تعالى في الآية السابقة تعليلاً للحكم: (بأنهم قوم لا يفقهون) وكذا في هذه الآية: (وعلم أن فيكم ضعفاً) (والله مع الصابرين).
وعدم الفقه والضعف الروحي والصبر من العلل والأسباب الخارجية المؤثرة في الغلبة والظفر، والفوز بلا شك يدل على أن الحكم في الآيتين مبني على ما اعتبر من الأوصاف الروحية في الفئتين: المؤمنين والكفار، وأن القوى الداخلة الروحية التي اعتبرت في الآية الأولى ما في المؤمن الواحد منها غالبة على القوى الداخلة الروحية في عشر من الكفار عادت بعد زمان يسير، يشير إليه بقوله: (الآن خفف الله عنكم) لا يربو ما في المؤمن الواحد منها من متوسطي المؤمنين إلا على اثنين من الكفار فقد فقدت القوة من أثرها بنسبة الثمانين في المائة، وتبدلت العشرون والمائتان في الآية الأولى إلى المائة والمائتين في الآية الثانية، والمائة والألف في الأولى إلى الألف والألفين في الثانية.
ويضيف الطباطبائي: والبحث الدقيق في العوامل المولدة للسجايا النفسانية بحسب الأحوال الطارئة على الإنسان في المجتمعات يهدي إلى ذلك، فإن المجتمعات المنزلية والأحزاب المنعقدة في سبيل غرض من الأغراض الحيوية دنيوية أو دينية في أول تكونها ونشأتها تحس بالموانع المضادة والمحن الهادمة لبنيانها من كل جانب، فتتنبه قواها الدافعة للجهاد في سبيل هدفها المشروع عندها، وتستيقظ ما نامت من نفسانياتها للتحذر من المكاره والتفدية في طريق مطلوبها بالمال والنفس، ولا تزال تجاهد وتفدي ليلها ونهارها، وتتقوى وتتقدم حتى تمهّد لنفسها حياة فيها بعض الاستقلال. انتهى.
وفي البحث بقية من أرادها فليراجع تفسير الميزان.
مقالات اخرى للكاتب