رجل الدولة هو الذي يتمتع بالنضج السياسي والخبرة والحكمة واعتماد القانون في تحقيق الأمن والعدل،وكارزما تجعل مواطنيه،على اختلافاتهم الفكرية والاثنية والدينية،يعجبون بشخصيته..فيمنحونه التقدير الايجابي غير المشروط بالسلطة.
وواقع العراق بعد التغيير(2003) قدم صورة مناقضة لـ(رجل الدولة).ففي السنوات العشر الماضيات بلغ المنهوب من الثروة الوطنية ما يعادل ميزانيات خمس دول عربية مجتمعة.وتجاوز عدد المشاريع الوهمية تسعة آلاف بكلفة مئات ألترليونات العراقية،واحاط الحاكم نفسه بافراد اسرته وابناء عمومته،معتمدا مبدأ الولاء حتى لو كانوا اشباه ألاميين،ومستبعدا الخبراء وذوي الكفاءة.وصارت الحقائب الوزارية والمراكز الحساسة في الدولة..تباع وتشترى.وتحول الفساد من خزي الى شطارة،فضلا عن تردي الخدمات وزيادة من هم تحت مستوى خط الفقر الى اكثر من خمسة ملايين عراقي برغم ان العراق يعدّ من اغنى البلدان.
والسؤال:لماذا لم تفرز الحياة السياسية في العراق بعد التغيير قائدا سياسيا بمستوى رجل دولة؟
المحللون السياسيون يعزونها الى ان التغيير في العراق جاء بتدخل اجنبي،ولو ان القوى السياسية العراقية كانت هي التي اطاحت بالنظام الدكتاتوري لأفرزت قائدا سياسيا يوحّدها،لكنها كانت اشبه بفرق عسكرية متجحفلة في خنادق..لكل خندق عنوان وقائد،يجمعها هدف التخلص من النظام،وتفرّقها مصالح حزبية وطائفية وقومية.ولأن ما يجمعها انتهي بانتهاء النظام،فقد تولت المصالح اذكاء الخلاف فيما بينها على حساب المصلحة العليا للوطن.ويذكر بريمر بمذكراته،ان الشيعة كانوا يأتونه للمطالبة بمصالح طائفتهم،وكذا فعل السنّة والكورد.ويضيف بأن لا احد جاءه يطالب بمصالح العراق..وربما كان هذا هو السبب الذي دفع بريمر الى ان يدق (التثليث) في شاصي العملية السياسية العراقية.فضلا عن ان الأحزاب السياسية طاردة للمفكرين من الطراز الرفيع،لأنها تحكمها ايديولوجيات وعقائد خاصة بها فيما العراق لا تستوعبه ايديولوجيا او عقديدة محددة.
ومع صحة هذا التحليل فانه لا يقدم تفسيرا متكاملا،لاغفاله حقيقة ان االشخصية السياسية العراقية هي نتاج طبيعة المجتمع العراقي،الذي ينفرد عن المجتمعات الأخرى بأنه شعب منتج لأصناف متضادة من البشر بمواصفات عالية الجودة.
فهو منتج لمبدعين ومفكرين وشعراء ورجال دين وشيوخ عشائر من طراز رفيع،ومنتج لقتلة ورعاع وغوغاء بمواصفات " عالية الجودة ". ففي (1958) قتل افراد العائلة المالكة وطاف الناس بكفوف أيديهم في حشود هائجة بهستيريا الفاقدين لوعيهم الإنساني.وفي (1963) قتل عبد الكريم قاسم وآلآف الشيوعيين والوطنيين.وفي (1991)قتل مئات البعثيين ووضعت إطارات السيارات برقاب عدد منهم وحرقوا وهم أحياء.
والعراقيون منتجون للطغاة..يرفعونهم للسماء حين يكونون في السلطة ويمسحون بهم الارض حين يسقطون.وهم منتجون لمن يفلقون رؤوسهم بالحراب من أجل التاريخ والموت فداء لمن ماتوا،ومنتجون لمعتقدين عن يقين بأن تاريخهم مزوّر وأسود ومعرقل للتقدم،ومنتجون لمن يعرفون بالغيرة العراقية والأنفة،ومنتجون لناهبين من طراز رذيل،ولا أرذل من سلوك ينهب الناس فيه وطنهم وذاكرة تاريخه،حتى صيروا الفرهود شطارة يتسابقون إليه حيثما حلّت بالوطن محنة.
والشخصية السياسية العراقية..نتاج الاحداث ايضا،نلتقط منها حدثين اسهما في تشكيلها:
الأول:ان التغيير في(2003)تجاوز هدفه،من الاطاحة بالنظام الى الاطاحة بالدولة التي نجم عنها ما نعدّه قانونا اجتماعيا نصوغه بالآتي:
(اذا انهارت الدولة وتعطّل القانون وصارت الحياة فوضى..
شاع الخوف بين الناس وتفرقوا الى مجاميع او افراد تتحكّم
في سلوكهم الحاجة الى البقاء،فيلجأون الى قوة تحميهم
يحصل بينهما ما يشبه العقد يقوم على مبدأ الحماية المتبادلة).
من هنا بدأت "ثقافة الاحتماء" وحدث تحول اجتماعي سيكولوجي سياسي خطير،هو ان الشعور بالانتماء صار الى القوة التي تحمي الفرد،فتعطّل الشعور بالانتماء الى العراق وتحول الى ولاءات لا تحصى.
الحدث الثاني هو:تبادل الادوار بين السنة والشيعة. فالسلطة بيد السّنة العرب اكثر من الف سنة،فيما كان الشيعة بدور "المعارضة" للزمن ذاته.ولقد فهم تبادل الأدوار هذا بين الطائفتين كما لو كان تبادل ادوار بين "الضحية" و"الجلاّد". ومن هذا الشحن السيكولوجي اعتمدت الشخصية السياسية العراقية العزف على الوتر الطائفي لترويج نفسها بين طائفتها تمهيدا لفوزها بالانتخابات..ومنها تحديدا نشأ ما نصطلح على تسميته (البرانويا السياسية) التي لا يمكن ان تنتج رجل دولة.
فمن متابعتنا تأكد ان في القادة السياسيين العراقيين فرقاء مصابون بـ(البرانويا) التي تعني الشك المرضي بالآخر..كل فريق منهم صار يعتقد عن يقين(يقينه هو) ان الآخر يتآمر عليه لانهائه حتى وصل الحال بهم الى رفع شعار ( لأتغدى بصاحبي قبل ان يتعشى بي)..فتغدى الجميع بالجميع بوجبات من البشر تعدت المائة ضحية باليوم بين عامي( 2006 و2007 ) تحديدا.
وما يزيد من حماقة البرانويا السياسية انها اذا طبخت على نار الطائفية والعرقية صار شفاء اصحابها قريبا من المستحيل.وبالصريح المرّ فان الشخصيات السياسية العراقية الحالية غير قادرة على ان تقتلع شكوكها وتحسن الظن بالاخر،لان البرانويا برمجت خلايا ادمغتهم بثلاث عقد عبر الزمن:عقدة انتاج الخوف الموروثة من الماضي،وعقدة الرعب المعاش في الحاضر،وعقدة توقع الشر والافناء في المستقبل.
ومن متابعاتنا " الفضائية" تبين أن في البرلمان افرادا مصابون بعصابيات مرضية .فمنهم من لديه ميول سادية ،وآخر شعور بالمظلومية ،وثالث يغلي في داخله برميل من الحقد..وغالبيتهم يمارسون "الأسقاط"..اعني ترحيل عيوبهم ورمي الفشل على الآخر،والانشغال بالتنقيب عن رذائل المقابل وتنزيه نفسه مع ان فيه من الرذائل ما لا يقلّ عن صاحبه .ولهذا كان البرلمان مصدر احباط وتصعيد للتوتر بين الناس بدل ان يكون مصدر تطمين لهم. والواقع ان البرلمان العراقي لا يمثل الشعب بل هو نتاج البرانويا التي اشاعتها الشخصية السياسية،لدرجة ان جماهير الشيعة التي وصلت حد الجزع من سوء حالها الحياتي والخدمي (لحكومة شيعية)..صارت تأتي بسياسي طائفي قليل الخبرة لأنه نجح في اخافتهم بأنهم ان لم ينتخبوه فأن " السنّة" سيفنونهم..وقل الشيء نفسه عن جماهير السنة.
في ضوء ذلك نستنتج حقيقة قاسية هي ان الشخصية السياسية العراقية خلقت واقعا سياسيا مأزوما من خصائصه..انه لا يمكن ان ينتج رجل دولة يحظى بقبول مجتمع متعدد القوميات والدينات والطوائف ،الا بعد ان يتعافى العراقيون من امراضهم ويأتون ببرلمان نوعي جديد.
مقالات اخرى للكاتب