في هامش الصفحة (31) من كتاب المحامي السيد (احمد زكي الخياط) الموسوم بــ (تاريخ المحاماة في العراق) المطبوع سنة (1930) في مطبعة (المعارف) بمدينة (بغداد) ،
يذكر :
(إن الحلاق كان من جملة موظفي تنفيذ الاحكام لدى المحكمة ، ونصت على ذلك "شريعة حمورابي" ، وذلك لأن بعض الاحكام تصدر بمعاقبة المحكوم ، بــ "جز شعره" مثلا ، لان الفرد أنذاك كان يحتفظ بشعر رأسه ولحيته طويلين ، دون ان يقص منهما شيئا . ولعل حلق الشعر آنذاك ، كان من قبيل التشهير بالمحكوم) .
وكانت مثل هذه العقوبات تطبقها جماعة بروتستانتية في القرن السابع عشر بالتشهير بالمذنب ، وفضحه امام الناس . كما كانت مثل هذه العقوبة مطبقة في جمهورية الصين الشعبية أيام (الثورة الثقافية) .
وقد تزايدت في الولايات المتحدة الامريكية احكام بعض القضاة التي يقررون فيها معاقبة بعض المحكومين بفضحهم امام الناس ، على ان يتم تخييرهم بين ذلك التشهير ، وبين فرض عقوبة الحبس بحقهم . فهو مبدأ بسيط يتضمن ان يعرض القاضي على بعض المتهمين بارتكاب بعض الجرائم البسيطة نسبيا ، بأن يقبلوا ان يتعرضوا طواعية لأدانة المجتمع ، فيعترفون علنا بما ارتكبوه مقابل خفض مدة عقوبتهم أو إعفائهم من عقوبة الحبس . والمحكوم هنا يجب ان يقبل بذلك طواعية ، (لعدم وجود نص قانوني ملزم ...) . فبدلا من عقوبة (عمود التشهير) الذي كان يربط المحكوم به ، والتي كانت تطبق في اوربا قبل (ثلاثة قرون) ، اصبح بعض القضاة الامريكيين يحكمون على المتهم بعقوبات تتراوح بين الاعتراف امام المارة في الشوارع العامة ، بأنه سرق ، او أن يتجول في تلك الشوارع ، حاملا لافتة تتضمن اعماله السيئة التي قام بها ، او بنشر اسمه في الصحف ، بأنه أقام علاقة مع احدى المومسات .
ويقول القاضي (صموئيل داش) من جامعة (جورج تاون) في واشنطن : (ان هذا النوع من الأحكام يدخل في إطار السلطة التقديرية للقاضي ، وعادة ما يفرح المتهمون بمثل هذا النوع من الاحكام ، كي يفلتوا من السجن ...) .
وأنواع التشهير كثيرة ، وللقضاة (خيال خصب) في هذا المجال . ففي ولاية (ايلينوي) حكم على مزارع ضرب جارا له ، بأن يعلق في رقبته (لافتة) ويقف حاملا إياها على مدخل مسكنه ، كتب عليها : (هنا يسكن مجرم عنيف .. سيروا امامه على مسؤوليتكم الخاصة ...) . وفي (بوسطن) بولاية (ماشاتشوسيتس) حكم على زبائن مومسات بتنظيف أماكن لقاءاتهم من (الواقيات) التي تنتشر على الارض ، لأن الدعارة ممنوعة في الولايات المتحدة الامريكية .
والقضاة الذين يحكمون بهذا النوع من العقوبات ، مقتنعون بأنهم يلقنون المذنبين دروسا بحيث انهم لن يعودوا الى سلوك طريق الجريمة بعد ذلك . واولئك القضاة يعتقدون ان العقوبة العلنية تشفي غليل لناس برؤيتهم المذنب يلقى جزاءه علنا . ومن جانب آخر يتم توفير النقود التي تقتطع من ايرادات الضرائب التي تنفق على السجون ، عندما يتم خفض مدد العقوبات السالبة للحرية .
وثمة امثلة كثيرة على عقوبات التشهير ، ففي ولاية (نيويورك) فوجيء مالكي منازل ترتكب فيها تصرفات فاحشة ، بــ (لوحة كبيرة معلقة على ابواب تلك المنازل ، تتضمن اسماءهم وشرحا للمارة بانهم يسهمون في الانحطاط الاخلاقي للحي) . وقد امر القاضي (لاري شاك) من ولاية (فلوريدا) بــ (كتابة كلمات بحروف كبيرة على باب مسكن متهم بأنه ثبتت إدانته بتعذيب فتيات صغيرات) . وفي (فلوريدا) أيضا ، قبض على سائقين في حالة (سكر) وحكم عليهم بوضع لوحات على سياراتهم (تنذر سائقي السيارات الاخرى بأنهم يمثلون خطرا عليهم) . وفي ولاية (اركانسو) حكم على لصوص (بالسير امام المحل الذي سرقوا منه وبوضع لافتات تلف حول اعناقهم تتصمن وصفا لجرائم السرقة التي قاموا بها.) .
أكتب هذا الآن ، وقد جال بخاطري الكم الهائل من جرائم الفساد المالي والاداري ، التي ترتكب ، ويبذل القضاء بمختلف مستوياته جهدا كبيرا في كشف تلك الجرائم ، والتوصل لمرتكبيها ، وإنزال العقاب المناسب بحقهم ، إلا ان معظم الناس يجهلون ما يبذله القضاء من جهد . بل ويردد المغرضون ان القضاء يغض الطرف عن تلك الجرائم ، أو انه لايحرك ساكنا تجاهها . والسبب في ما أرى ان القضاء لم يلتفت الى أهمية نشر الاحكام النهائية الصادرة بالإدانة في بعض الجنايات ومن بينها الجنايات التي تمس الاموال العامة . رغم ان المادة (102) من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 أجازت (للمحكمة من تلقاء نفسها ، او بناءا على طلب الإدعاء العام أن تأمر بنشر الحكم النهائي الصادر بالإدانة في جناية ...) .
إن إحساس الناس ان آلة العدالة تعمل بفعالية ، وأن القصاص العادل قد طال المفسدين ، وان المذنب قد لقي جزاءه ، يحقق عدة غايات ، لعل من اهمها فضح المجرمين الذين خرجوا عن القواعد القانونية التي أثرت على حياة الفرد والمجتمع والتي دعت المجتمع الى ان يبادر الى الوقوف موقفا حاسما ومتشددا منهم لأن الفعل الذي قاموا به حمل في طياته إنتقاصا من موارد الرزق العام للناس . إضافة لردع الآخرين عن سلوك طريق الجريمة ، يضاف لذلك تأكيد ثقة المواطن بالأجهزة التي تسهم في التصدي للجريمة ومن بينها أجهزة القضاء .
وقد يرد احدهم ان اجهزة إعلام القضاء تنشر بعض ما قام به القضاء في هذا المجال ، وأرى ان ذلك غير كاف ٍ ، ولايحقق الهدف الذي اتجهت اليه المادة (102) من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 . إذ ان النشر المقصود بهذا النص القانوني يختلف عن نشر الخبر الذي تتصدى له اجهزة إعلام القضاء (مشكورة) ، فالنشر الذي تضمنه ذلك النص القانوني ، يعد من (العقوبات التكميلية) التي أشار لها (الفصل الثالث) من (الباب الخامس) من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 ، وبالتالي فهذه العقوبات التكميلية تجيز للمحكمة ان تنشر الحكم في جناية من تلقاء نفسها او بناءا على طلب الادعاء العام . والمقصود هنا ان ينشر قرار الحكم متضمنا الأسم الصريح للمحكوم والعقوبة النهائية بالادانة التي انزلت به . وياحبذا لو تتجه المحكمة لنشر قراري التجريم والحكم ، لكي يكون المواطن على بينة كافية بحيثيات الجريمة التي تعرض لها المال العام .
إني من هذا المنبر الذي أتاحته لنا السلطة القضائية متمثلة برئيسها (الاستاذ مدحت المحمود) ، الذي لم يألو جهدا في تيسير سبل اللجوء الى القضاء للناس كافة ، وفتح ابواب (قصور القضاء) امامهم ، و(قاعات مرافعاته) ، و(غرف قضاته التي كانت مغلقة ) ، ليؤكد (علانية القضاء) ، و(شفافيته) ، ادعو محاكم الجنايات ، ومعها (الادعاء العام) لتفعيل حكم المادة (102) من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 ، ونشر الاحكام النهائية الصادرة في بعض الجنايات بالادانة ، وخاصة تلك الجنايات التي تلقى صدى لدى عموم الناس وتثير قلقهم ، على حرمة الاموال العامة ، وتثير تساؤلهم عن المصير الذي آل اليه المتهمون فيها ، والاحكام التي صدرت بحقهم . بإعتبار النشر (عقوبة تكميلية) .
مقالات اخرى للكاتب