دعوني في البدايةِ أذكرُ تعريفاً لمصطلحِ المجتمعِ المدني (Civil Society) ليكونَ مقياساً لتشخيصِ ما يُعانيَ منهُ ذلكَ المجتمعُ مِن عللٍ وأمراضٍ، ونعرفُ مِن خلالهِ مصاديقهُ على ارضِ الواقعِ، والتعريفُ هو:
(شبكةُ التنظيماتِ التطوعيةِ غيرُ الربحيةِ التي تملأُ المجالَ بينَ الاسرةِ والدولةِ، ولكنها مستقلةٌ عَنها، وتعملُ على تحقيقِ مصالحِ اعضائِها في إطارِ الالتزامِ بقيمِ الاحترامِ والتسامحِ الفكري والسياسي، والقبولِ بالتعدديةِ والاختلافِ، والادارةِ السلميةِ للصراعاتِ والاختلافاتِ، وأبرزُ مكوناتهِ: المنظماتُ غيرُ الحكوميةِ (NGO`s)، الفرقُ التطوعيةِ، الأنديةُ الرياضيةُ والثقافيةُ، النقاباتُ المهنيةُ، الأحزابُ السياسيةُ، والجماعاتُ الدينيةُ).
في ضوءِ هذا التعريفِ نُلاحظُ أنَّ المجتمعَ المدنيَ في العراقِ وفي ميسانَ، تحديداً، وبعيداً عَن الشعاراتِ والأحلامِ، يُعانيْ مِن أمراضٍ عديدةٍ نقلَها مِن محيطهِ المريضِ، أصلاً، بالتأكيدِ لا يُصبحُ المرءُ ملاكاً لمجردِ أنهُ عمِلَ في المجتمعِ المدني، ومِن أهمِ هذهِ الامراضِ:
- الدكتاتوريةُ: لا يمكنُ أن يزدهرَ المجتمعُ المدنيُّ إلّا في مجتمعٍ ديموقراطيٍّ، فالديموقراطيةُ والمدنيّةُ صنوانٍ لا يفترقانِ، مع الاعترافِ بأسبقيةِ الأولى على الثانيةِ، طبعاً، ولا أقصدُ بالديموقراطيةِ هنا بوصفِها أسلوبَ حياةِ في الدولةِ والمجتمعِ فقط، بل أن تكونَ ممارسةً يوميةً في عملِ المنظماتِ، سيّما في عمليةِ إختيارِ قياداتِها عَن طريقِ انتخاباتٍ حرةٍ دوريةٍ، فمِن النادرِ أن تّحصلَ انتخاباتٌ
داخليةٌ يُستبدلُ فيها رئيسُ المنظمةِ، وإنْ حصلتْ فهيَ مُسيطرُ عليها، (بعضُهم يتعاملُ مع المنظمةِ وكأنَها ملكٌ شخصٌي لهُ وقد سجلَها بالتسجيلِ العقاري)، ومما لا افهمُهُ حقاً هو أن تُثقِفَ منظماتٌ فاقدةٌ للديموقراطيةِ المواطنينَ على الديموقراطيةِ وتحثهم على المشاركةِ بالانتخاباتِ!
* النشاطاتُ الاحتفاليةُ: شهِدتْ السنواتُ الماضيةُ، سواءاً على مستوى العراق أمْ المحافظةِ، الكثيرَ مِن الأنشطةِ ذاتِ الطابعِ الكرنفاليِ الاعلاميِ الواضحِ، دُعيَ إليها اشخاصٌ تكررتْ مشاركتُهم مهما كانَ نوعُ النشاطُ وموضوعهُ، وكأنَهُ لا يوجدُ غيرُهم في البلدِ! علماً إن بعضاً مِنهم غيرُ مؤمنينَ بالعملِ المدنيِ اصلاً ولكنَهم يشاركُونَ لأسبابٍ مِنها: المالِ، الملذاتِ، الشهرةِ، ... الخ، وعلى الرغمِ من كثرةِ تلكَ الفعالياتِ إلا إنهُ لا اثرَ لها في الواقعِ لعدمِ جديةِ القائمينَ عليها وتركيزِهم على الجانبِ الإعلامي ونسيانِ أو تناسيَ ما تتمخضُ عنهُ من نتائجٍ، والغريبُ انهُ يوجدُ (المؤتمرُ الأولُ، المهرجانُ الأولُ، المنتدى الأولُ، ...) ولا يوجد الثاني فضلاً عنِ الثالثِ، إنهُ تحدي الجدّيةِ والمطاولةِ دائماً، وعندما تستمعُ إلى بعضِ قادةِ المنظماتِ أو ترى صورَ أعمالهِم تحسُ إنكَ إزاءُ أكبرِ وأهمِ منظمةٍ في العالمِ ولكن عندما تطّلعُ على الواقعِ عن كثبٍ تعرفُ حجمَ الخديعةِ، رغم كل العناوينِ والشعاراتِ البراقةِ التي يختبؤون خلفها، إنَّ تلكَ المنظماتُ، وبتعبيرِ (ماو تسي تونغ)، "نمرٌ من ورقٍ".
* التنافسُ: في أيةِ ساحةٍ مفتوحةٍ للعملِ يكونُ هناكَ تنافساً شديداً على الصدارةِ، وهذا شيءٌ طبيعيٌ، ولكنَّ مِن غيرِ الطبيعيِ هو أن يكونَ التنافسُ غيرَ شريفٍ وغيرَ أخلاقيٍ، ويتجلى مِن خلالِ التسقيطِ والتسقيطِ المُتبادلِ وتصفيةِ الحساباتِ وخاصةً عَن طريقِ (Social Media) وبالذاتِ (facebook)، الامرُ الذي
أدى إلى حصولِ خلافاتٍ كثيرةٍ استهلكتْ الكثيرَ مِن الجهدِ والوقتِ لتلافيها، هلْ لاحظتمْ ماذا يحصلُ إذا لمْ تتمَّ دعوةُ شخصٍ ما إلى مؤتمرٍ أو مهرجانٍ سيّما خارجَ المحافظةِ؟ هلْ لاحظتمْ ماذا يحدثُ في حالةِ إن شخصاً ما نفَّذَ فكرةً يُصادفُ إن شخصاً آخرَ قالَها أو فكرَ بها أو حتى حَلِمَ بها؟ هلْ لاحظتمْ أسلوبَ الانتقادِ لكلِّ شيءٍ ولكلِّ شخصٍ وبطريقةٍ جارحةٍ للمشاعرِ وبلا خطوطٍ حمراءَ أخلاقيةٍ على الأقلِ؟ إنَّ المتابعَ يخجلُ مِن المنشوراتِ والتعليقاتِ التي يكتبُها بعضُهمْ، مما يدلُّ على وجود إنهيارٍ أخلاقيٍ خطيرٍ والمفروضُ إن الانسانَ المدنيَ يتمتعُ بأكبرِ قدرٍ مِن المعاييرِ الأخلاقيةِ، ومِن المؤكدِ أنَّ هؤلاءِ ليسوا مدنيين.
* التبعيةُ: إن قوةَ المجتمعِ المدنيِ تكمنُ في استقلاليتهِ التامةِ، فالتبعيةُ قاتلةٌ لهُ، لكنَّ الملاحَظَ وجودُ منظماتٍ وناشطينَ تابعينَ لجهاتٍ سياسيةٍ أو غيرِ سياسيةٍ يدافعونَ عَنها في كلِّ المواقفِ بغضِ النظرِ عَن صحةِ أو خطأِ تلك المواقفِ وحتى بدون أن تُكلفَهُم تلكَ الجهاتُ اصلاً، إنهم (ملَكيونَ أكثرَ من الملكِ)، ومع الاعترافِ بأحقيةِ الفردِ في الانتماءِ إلى أيةِ جهةٍ يرغبُ بها، ولكنَّ هذا الحقَ يمارسُهُ خارجَ المجتمعِ المدني وبعيداً عنهُ، مِن جهةٍ أخرى يجبُ أن تكونَ علاقةُ المجتمعِ المدنيَ بالسلطةِ مبنيةً على التعاونِ والتعاضدِ بينَ أندادٍ وليستْ علاقةً بين تابعٍ ومتبوعٍ كما يفعلُ بعضُ المتملقينَ الذين يقدمونَ للسلطةِ تقاريرَ ليليةٍ شِبهَ يوميةٍ عَن زملائِهم في العملِ للحصولِ على امتيازاتٍ وقتيةٍ، ويستخدمونَ طُرقَ شتّى، بعضَها غيرَ مشروعٍ وتتضمن تنازلاتٍ مؤلمةٍ، للحصولِ على رضِاها والتقربِ مِنها، علماً إن السلطةَ نفسَها تلفظُهم عنِد أولِ خطأٍ يبدرُ مِنهم ليذهبوا حيثُ يستحقونَ، إلى مكانِهم الحقيقي: مزبلةِ التأريخِ.
* فقدانُ الايمانِ بالعملِ المدنيِ: ما يثيرُ الاستغرابَ حقاً هو الازدواجيةُ التي يعاني مِنها بعضُهم من حيثُ عملهِم في وسطِ المجتمعِ المدنيِ مع عدمِ إيمانهِم المطلقَ بهذا المفهومِ والنظرِ إليهِ بوصفهِ مفهوماً دخيلاً على مجتمعاتِنا المحافِظةِ وانحلالاً أخلاقياً وجزءاً مِن المؤامرةِ الكونيةِ الشهيرةِ على بلدنِا وإنَّهُ تبعيةٌ وتسويقٌ لأفكارِ الغربِ والحضارةِ الغربيةِ ويُنفذُ اجنداتٍ خارجيةً مشبوهةً، ويتعكزونَ في ذلكَ على المقدسِ أو الأسطوانةِ المشروخةِ المملةِ عَن الأعرافِ والتقاليدِ، علماً إننا إذا نظرنا إلى أنفسِنا على إننا ورثةُ السومريينَ القدماءِ فإن أيةَ أفكارٍ غيرَ أفكارِهم تُعدُّ دخيلةً وغيرَ اصيلةٍ ولا علاقةَ لها بمجتمعِنا مهما بلغَ عمرُها الزمنيُ، أقولُ لهم: أيها السيداتُ والسادةُ حددوا موقفَكم، أما معَ أو ضدْ.
* عدمُ معرفةِ حدودِ عملِ المجتمعِ المدنيِ: للمجتمعِ المدنيِ نطاقُ عملٍ معينٍ يغلبُ عليهِ الطابعُ الإنسانيُ المدنيُ، لكنَّ الموجودَ، واقعاً، هو التداخلٍ بين العملِ المدنيِ والعملِ الدينيِ أو السياسيِ أو العسكريِ، ... الخ، وعدمُ الفصلِ بينها، بعضُهم يعملُ في كلِّ شيءٍ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، لكنَ على المرءِ أن يكونَ مدنياً داخلَ المجتمعِ المدنيِ أما خارجَهَ فليكنْ ما يشاءُ.
على الرغمِ أني لمْ اذكرْ كلَّ الأمراضِ الآخرى للمجتمعُ المدني (المنظماتُ الوهميةُ، منظماتُ الحقيبةِ، المنظماتُ العائليةُ، الفسادُ، وغيرُها)، إلا إن ما ذكرتُهُ يمثلُ صرخةً في وادٍ وجرسَ انذارٍ لتداركِ الوضعِ وانقاذِ ما يمكنُ إنقاذَهُ.
مقالات اخرى للكاتب