كان لديّ، في المتوسطة، زميل بلسان جنوبي عذب، ذات يوم كان يحدثنا عن ابن عم له تزوج، سألناه عنها فقال بفخر ـ تزوج كرايبنه.. خريجة مثَقُفَه (برفع القاف) فابتسم أحدنا وقال له ـ مو مُثقُفَه، كول مثقفة! (أي بالفتح) تذكرت هذه الحادثة وأنا أزمع البدء بعدد من المقالات عن الثقافة والمثقفين. قلت لنفسي ان الفرق بين فهمنا للمثقف وحقيقته هو كالفرق بين "مثقفة" و"مُثَقُفَه" كما نطقها زميلي القديم.
ولكن من هو المثقف يا ترى؟ كيف نميّزه؟ هل له ملامح شكلية ما؟ أم ان الأمر يتعلق بالقيم التي يؤمن بها؟ هل هناك مثقف عالِم وآخر شعبوي، أو مثقف نخبة وآخر جماهيري؟ ما دوره في المجتمع؟ هل على الآخرين أن ينصاعوا لآرائه؟ ما علاقته بالسلطة؟ هل هناك مثقف أجير وآخر حر؟ أسئلة شائكة فكرت بطرحها حسب "التساهيل" والمزاج لعلي أجيب عن بعضها خصوصا أنني أتوجه في خطابي لعدد من القراء متنوعي المنحدرات ودرجات الفهم، ففيهم الأكاديميون وربات البيوت والكسبة وطلبة الجامعة. لهذا سأحاول قدر الإمكان الابتعاد عن اللغة النقدية المتخصصة التي قد يهرب منها بعض القراء قائلين لأنفسهم ـ صاحبنا يمكن جايته الحالة!
لأتوقف أولا عند المفردة نفسها "الثقافة"، من أين جاءت وكيف تجذرت ومتى؟ عربيا يعود المصدر للجذر "ثقف" الذي يعني حذق، والثَقِفُ هو الحاذق الفهم ويقال ان الـ"ثَقُف" تعني سرعة التعلم كما يورد ابن منظور. لكن المصدر العربي واشتقاقاته لم يستعمل بوضعه الخام إنما استعير كمرادف لمفردة "culture" التي وردتنا من اللغات الأوروبية ومصدرها هناك يعود للقرون الوسطى حيث استخدمت لمعنى الطقوس الدينية "coltes"، في الفرنسية، لكنها تبدلت في القرن السابع عشر لتدل على فلاحة الأرض. وفي القرن الثامن عشر "اتخذت منحى يعّبر عن التكوين الفكري عموما وعن التقدم الفكري للشخص خاصة". مع هذا، فإن التغير الأكبر لدلالة "الثقافة" لن يظهر إلا في اللغة الألمانية منتصف ذلك القرن، إذ اكتسبت مضمونا جماعيا وصارت تدل على التقدم الفكري لمجموعة إنسانية بصفة عامة، أما الجانب المادي للتقدم والازدهار فاختصت به مفردة "الحضارة".
بعد ذلك، عومل المفهوم أنثربولوجيا على أيدي عدد من العلماء أشهرهم مالينوفسكي وروث بنديكت ورادكليف براون وأدوارد تايلور والأخير عرفها بأنها "مركب يشمل على المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد وكل القابليات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في مجتمع ما". هذا التعريف يعني أن الثقافة روح الشعب فهي تحتوي منظوماته القيمية وفولكلوره وأخلاقياته وأعرافه. إنها تشمل كل شيء يميز جماعة عن أخرى وقد يصل الأمر لطريقة الأكل والجلوس كما يقول الثقافويون. وعلينا أن نلاحظ الآن أن معنى الثقافة هذا يمتد مع جذور المفهوم بصلة عميقة، فبما أن الثقافة تعنى أساسا "بالزراعة وتدجين الحيوانات" أوروبيا، فإنها توحي بمعنيين هما: "التنظيم والنمو التلقائي". أي أنها تنظيمٌ للحياة الاجتماعية وهي، في الوقت نفسه، نمو تلقائي لهذه الحياة وصولا لما نحن عليه اليوم، أقصد ما كانت عليه أوروبا يوم نشأ فيها المفهوم بدلالته التي نعرفها.
ولكن هل يعني هذا أننا جميعا مثقفون؟ كلا بالطبع، المعنى يشير تحديدا الى أننا نحمل ثقافة واحدة تميّزنا عن أبناء الجماعات الأخرى، لكنه يستبطن، في اللحظة نفسها، معنى كون"المثقف" شخصا ينزع نحو "تدجين" أعرافه واستزراعها بطريقة أكثر تطورا ونفعا مما هي عليه. وبذا يكون معنى الثقافة: رفضا مزدوجا للحتمية العضوية، من جهة، والاستقلال الذاتي للروح، من جهة أخرى. انها كما يقول تيري أيغلتون، رفض للمادية والمثالية معا، فهي تؤكد ضد الأولى على أن "الطبيعة تتضمن ما يفوقها ويحللها، وتؤكد ضد المثالية على أنه حتى العنصر الانساني الأكثر نبلا له جذوره المتواضعة في تكويننا البيولوجي وفي بيئتنا الطبيعية". انها، أي الثقافة، ما تطوّر فعلا، كما يقول، وبذا يكون المثقف شخصا تهذّب وتشذب فعلا كذلك. وهذا يعني أنه تمثيل للثقافة بمعنى كونها تحضرّا لا بمعنى كونها روحا تدب في أعرافنا وعاداتنا وقيمنا. للحديث بقية فانتظروا.
مقالات اخرى للكاتب