بعضٌ بحرقة، وبعضٌ ببطر، وبعضٌ آخر بتعالٍ، مارسَ عدد من شباب وشيوخ مواقع التواصل الاجتماعي -غالبيتهم من المثقفين- ما يُشبه الجَلْد لأننا لا نشبه المصريين في عزمهم وحزمهم وثوريتهم.
لم يكن جَلْداً ذاتياً، وإنما هو جَلْد للشعب الذي لا يخرج إلى ساحة التحرير في بغداد وسائر الساحات والشوارع، للمطالبة بإصلاح النظام أو رحيل الحكومة أو رئيس الحكومة أو إجراء انتخابات مبكرة، أو في الأقل بتوفير الكهرباء ومكافحة الفساد المالي والإداري وتشغيل العاطلين.
من وجهة نظر هؤلاء المتحاورين بحرقة أو ببطر أو بتعال عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فان شعبنا غير ثوري، أو انه نفعي وانتهازي، أو انه جاهل ومتخلف، فلا يتحرك ضد النظام والحكومة، مع ان لدينا من الاسباب ما يزيد بمئة ضعف عن الاسباب التي حملت المصريين على النزول الى ساحات مدنهم وشوارعها للثورة على حكم الاخوان المسلمين.
هؤلاء المتحاورون بحرقة أو ببطر أو بتعال عبر مواقع التواصل الاجتماعي يغفلون أمراً جوهرياً وفرقاً نوعياَ بين الحال المصرية والحال العراقية .. ملايين المصريين لم تنزل الى الساحات والشوارع من تلقاء نفسها. هي فعلت ذلك استجابة لدعوة من نخبة سياسية واجتماعية وثقافية نشيطة ومحل احترام وثقة، لم تكلّ أو تملّ أو تهدأ أو تَسكن أو تجزع، بل ظلت تعمل وتعمل وتعمل من أجل وطنها وشعبها.
الفرق النوعي ان نخبة سياسية واجتماعية وثقافية كهذه تنقصنا، لا وجود لها بيننا، وليس في الوسع استيرادها من الصين أو تركيا أو ايران كسائر السلع الرديئة التي تغمر أسواقنا .. نخبتنا السياسية والاجتماعية والثقافية اختارت أن تكون هي "حزب الكنبة"، وأن تحافظ على هدوئها وسكينتها، وأن تظل مستسلمة وراضية بما "قسم الله"، مع ان لدينا الف سبب وسبب لكي تتحرك الدماء في عروقها لتقول لا كبيرة وقوية في وجه نظامنا السياسي المستبد والفاسد والمتهالك والمنفصل عن شعبه أكثر بألف مرة مما هو عليه نظام الاخوان المسلمين في مصر.
نعم، عِلّتنا في النخبة وليس في الشعب.. أعطوا شعبنا نخبة سياسية واجتماعية وسياسية كالنخبة المصرية وسترون كيف سيُدهشكم ويُذهلكم.. أعطوه أحزاباً سياسية كالاحزاب المصرية وزعماءً سياسيين كالزعماء السياسيين المصريين.. أعطوه اتحاداً للأدباء كاتحاد كتاب مصر ونقابة للصحفيين كنقابة الصحفيين المصريين ونقابة للمحامين كنقابة المحامين المصريين ونقابة للفنانين كنقابة الفنانين المصريين وقضاة كالقضاة المصريين.
فرق نوعي كبير بين ما تصنعه نخبة سياسية واجتماعية وثقافية تنزل الى الشارع وتدعو الجمهور للحاق بها من أجل مطالبه وأهدافه، كالنخبة المصرية، وما لا تصنعه نخبة تختار أن تلزم بيوتها لتتلصص على ما يجري في الشارع من فتحات بحجم حدقة العين في ستائر النوافذ، كنخبتنا العراقية.
مقالات اخرى للكاتب