الليلة تذكرتهما، جدتي الطيبة وعمة أبي التي كانت تزورنا بين فترة وأخرى. تلك الجنوبيتان الطيبتان اللتان كانتا تحبّان (الموطة) وتفضلانها في أيام الحرّ، وما أدراك ما أيام الحرّ في تلك الأيام!
نعم، لقد أدمنت جدتي، في آخر سني عمرها، (الموطة)، وصارت تنافسنا في تناولها؛ بين عصرية وعصرية، تفكُّ مغاليق جزدانها وتخرج قطعة نقود معدنية، ثم تقول لأحدِ العيال بصوتٍ واطئ ـ تعال حبوبة جيبلي موطة! فنبتسم ونهرع لتنفيذ رغبتها.
كان منظرها لطيفا وغريبا نوعا ما؛ عجوز في الثمانين، معدّلة، بيدها (موطة أم الكبّوس) أو (أم العودة)، تتمطق بها بلذة، وتنشغل بها عن الآخرين انشغالا عظيما، فإذا ما أنهتها، وضعت (العودة) إلى جانب ومسحت فمها بيدها، ثم عادت لتأملاتها التي لا تنتهي. كانت الجدة بطيئة في الأكل جدا لدرجة انني ذات مرة صورتها بكاميرا فديو وهي تأكل البطيخ والرقي. كنت أصوّب العدسة (زوم) على يدها وهي تمسك الشيف، تطول اللقطة حتى الملل فأقول همسا ـ دفضيها عاد. وبعد لأيٍّ، تضع الشيف في فمها وتبدأ تلوكه ببطء.
قدر تعلق الأمر بـ(الموطة)، فإن زايرت عنيبة، عمة أبي، قد جربتها أيضا، وتناولتها في بيتنا و(عنيبة) هذه من أعجب الشخصيات التي رأيتها في حياتي. جنوبية اللكنة والمشية والجسد حتّى لكأنما جيء بها من الأهوار توّا، تدخن بنهمٍ وتجلسُ كما يصف المتنبي: يقعي جلوس البدوي المصطلي.. بأربع مجدولة لم تجدلِ. تنفخ الدخان بلهاثٍ متتابع بحيث تبدو، وهي تنفث الهواء، وكأنها تصفّر.
ذات مرة رأيناها وهي تدخل التواليت حافية ففضحناها، ولم نتوقف عن إخبار الآخرين ممن لم يروها: اليوم (عنيبة) طبّت للمرافق حافية!!
لكنها رغم هذه البدائية، كانت تفضّل (الموطة) في الصيف كجدتي، وتحرص على شرائها من حرّ مالها، وهي كانت ذات مال كونها تملك دكانا في سوق (الجوادر)، ولذا لم نرها يوما إلا ومفاتيحها تتلولح من رقبتها بخيطٍ أخضر.
نعم، هذه الليلة تذكرت جدتي وصاحبتها، وأنا أتسلل كلَّ نصف ساعة إلى الثلاجة كي أستلّ واحدة من (الموطات) التي اشتريتها. كنت ذهبت مساءً رفقة حسوني وزينب واشتريت 14 قطعة من الحجم الصغير، وآخريين من ذوات (الكبّوس) وجئت بها. وزّعت على العيال ما وزّعت وأبقيت لسهرتي ستة أو سبعة ممنيا نفسي بالتلذذ بها في هدأة الليل. غير أنه ما أن حلّ موعدي وفتحت (الفريز) حتى فوجئت بغزوهم لها، إذ لم يتبقّ سوى أربع قطع. استغربت وسألتهم ـ وين الموطة؟ فجاء الجواب من حسوني ـ ما أدري ..آني أكلت بس وحدة!
اتجهت لابنتي ـ منو أكلهن؟ فزعمت أنها اللعينة، زنوبتي التي ورثت عن جدتي حب المثلجات. أدعت أنها تناولت خمسا لوحدها!
الليلة إذن تذكرتهما، جدتي وعنبية، وأنا أفتح العلبة تلو الأخرى، ثم أغرز فيها الملعقة بعد الملعقة، ومع كلّ غرزة، أتخيلهما جالستين في ركنٍ معتم، تنظران لي بحسرة وتتوسلان سرّا، جدتي تقول ـ حبوبة اقرالي ثواب عاده! ثم تستدرك ـ انكطعت كلوبنا بعالم البرزخ بعد حبوبتك! وبينما هي تقول هذا، تنفخ زايرت عنيبة، المقعية كالبدوي المصطلي، وتقول ـ الله أكبر.. الوادم تكاطعت يحبوبه.. داقرالنه الفاتحة كبل لا تخلصهن.. جنك مجلوب!
مقالات اخرى للكاتب