العراق تايمز / تبقى الصورة المطبوعة في ذهن اغلب الناس عن باريس هي تلك الصورة التي تجسد لنا الشوارع الصاخبة التي تتناثر المقاهي على جنباتها والقصور التاريخية ذات الحدائق الغناء والمتاحف والمسارح والمعارض الفنية وضفاف السين الجميلة .. الخ، ولا شك في أن باريس تزخر بالكثير من هذه الأمور الغامضة والمثيرة، فهي مدينة عريقة تواجد البشر فيها منذ أقدم العصور، وعثر المنقبون فيها على آثار يعود تاريخها إلى 6000 عام.
لكن الوجه الخفي من باريس والذي يكاد معظم الناس لا يعلمون عنه شيئا، هو أنفاقها وسراديبها القديمة، فأسفل العاصمة الفرنسية هناك 280 كيلومترا من الإنفاق والدهاليز والردهات والممرات المظلمة التي تشكلت خلال قرون مديدة من الحفر والتنقيب لاستخراج الجبس وصخور الحجر الجيري التي استخدمت في بناء المدينة نفسها.
في باريس القديمة، والتي كانت تدعى "لوتيتيا" في زمن الرومان، كانت الصخور تقتلع من مناجم مفتوحة فوق سطح الأرض لكي تستعمل في تشييد المسارح والحمامات والمسابح وغيرها من المرافق والصروح الرومانية.
فباريس كما ذكرنا سابقا هي مدينة قديمة، ولمئات السنين كان سكانها يدفنون موتاهم في مقابر متفرقة حول المدينة حتى ضاقت تلك المقابر بموتاها، فتقرر حل المشكلة في القرن الثاني عشر الميلادي عن طريق افتتاح مقبرة مركزية جديدة أسمها مقبرة القديسين الأبرياء (Saints Innocents Cemetery ) ليدفن فيها الباريسيون جثث موتاهم.
لكن وبمرور الزمن تحولت المقبرة الجديدة إلى مشكلة بحد ذاتها، فالدفن فيها كان يتم بطريقة عشوائية غير منظمة، خصوصا بالنسبة للفقراء، حيث كانت جثثهم تكدس فوق بعضها وغالبا ما تدفن من دون كفن، وكان القساوسة يقومون بإفراغ القبور القديمة بين الحين والآخر وينقلون هياكل الموتى داخلها إلى مقابر جماعية عند أطراف المقبرة، وبهذا كانوا يفسحون المجال للمزيد من جثث الموتى الجدد.
في الحقيقة كانت مقبرة القديسين الأبرياء أشبه بمقابر تراكمت فوق بعضها حتى وصل ارتفاعها إلى أكثر من عشرة أقدام، كانت أرضها متخمة بالجثث ولم يكن هناك متسع لموتى جدد، لكن مع هذا استمر المسئولون عنها في تكديس المزيد والمزيد .
وبالطبع فأن هذه الجثث المكدسة والمضغوطة داخل مساحات صغيرة أصبحت بالتدريج مصدر إزعاج كبير للسكان، فسوق المدينة المركزي كان يقع بالقرب من المقبرة، ورائحة التعفن والتفسخ المنبعثة عن الجثث كانت لا تطاق، وقد امتدت هذه الروائح الكريهة إلى مياه الشرب المستخرجة من الآبار فلوثتها، ثم وقعت الطامة الكبرى حين تهدمت بعض الأجزاء من جدران المقبرة نتيجة الضغط المتراكم فوقها فقذفت بالجثث المتفسخة والنتنة إلى الشوارع مما أدى إلى تفشي الأمراض والأوبئة.
وقد خطرت لأحد ضباط الشرطة فكرة جيدة عام 1777، كان هذا الضابط يدعى أليكساندر لينور، وقد أقترح نقل جميع الجثث والهياكل العظمية الموجودة في مقبرة القديسين الأبرياء إلى بعض الأجزاء من شبكة الأنفاق الباريسية. وفي عام 1785 وافقت الحكومة على خطته فتقرر نقل المقبرة بأكملها إلى مجموعة من الأنفاق تقع إلى الجنوب من باريس.
نقل الموتى من المقبرة إلى الأنفاق لم تكن مهمة سهلة، فنحن هنا نتحدث عن جثث وبقايا أكثر من ثلاثين جيلا من سكان باريس، أو ما يقارب الستة ملايين من الموتى المكدسين فوق بعضهم. لهذا فأن عملية النقل كانت شاقة استمرت لعدة سنوات.
كانت القبور تنبش أثناء الليل ثم تنقل الهياكل العظمية في عربات سوداء ضخمة إلى الأنفاق لتكدس هناك دونما عناية أو ترتيب، لكن في عام 1810 قام مهندس يدعى لويس دي توري بالأشراف على عملية ترتيب هذه العظام والجماجم إلى شكلها الحالي الذي يراه السياح عند زيارتهم لسرداب الموتى في باريس (Catacombs of Paris ).
سراديب موتى باريس تمتد لـ 1.7 كيلومتر، وهناك بوابات قديمة صدئة تخفي وراءها أقساما أخرى غير مسموح للسياح بالتجول داخلها
واصبحت الان مزار سياحي لاصحاب القلوب القوية.