لايخفى على الجميع إنّ من أهم المشاكل التي تواجه الأسرة العراقية هي ( السكن ) الذي يعتبر الحد الأدنى لحاجة أي انسان على هذه الأرض, وهذا الحق قد كفلته له جميع الشرائع السماوية والدساتير الكونية وهذه المشكلة تفاقمت في العراق نتيجة تراكمات عقود طويلة من الظروف غير الطبيعية التي مرّ بها البلد من حروب وحصار واستإثار بالسلطة وغياب التخطيط العلمي في البناء والاعمار , وفي المرحلة التي أعقبت السقوط انشغل السياسيون في تناحراتهم السياسية والتي أدّت الى غياب الاستقرار الامني والاقتصادي وتوقف عجلة الاستثمار في البلد في وقت نحن بأمس الحاجة له للنهوض بالواقع الاقتصادي واعادة بناء البنية التحتية المنهكة والمدمرة وهنا وددت أن أحدد بعض الأسباب التي ساهمت في تفاقم أزمة السكن في العراق وهي :
1- سوء التوزيع وعدم وجود تخطيط علمي ودراسات مبنية على أسس علمية في التخطيط والانشاء العمراني للمدن .
2- سوء الخدمات وانعدامها أحياناً في بعض المناطق نتيجة اهمال الدولة لها ما أدى الى عزوف سكان تلك المناطق عن البناء فيها وأدى الى نزوح الكثير من المواطنين منها الى مناطق اخرى تتوفر فيها هذه الخدمات .
3- ان حجم البناء في قطاع السكن لا يتلائم مع حجم الزيادة الحاصلة في السكان وبذلك لايستطيع احتواء هذه الزيادة .
4- عدم تقبل الكثير من سكان العراق طريقة البناء العمودي نتيجة أسباب اجتماعية وثقافية ما أدى الى التوجه نحو البناء الافقي الذي فيه ضياع مساحات كبيرة من الأرض علاوة على عدم قناعة الكثير من الناس بجدوى هذا النوع من البناء الذي يوفر الكثير في توفير الخدمات (الكهرباء والماء و المجاري وغيرها ) .
5- الفوارق الطبقية بين السكان التي وجدت بسبب الظروف غير الطبيعية في البلد ما أدى الى ظهور طبقة غنية ذات امكانية واسعة واخرى مسحوقة لاتستطيع ان توفر لها أي سكن .
6- الاصرار على استخدام وسائل واساليب البناء القديم ذات الكلفة العالية والذي يؤدي الى اثقال كاهل الافراد عند البناء وعدم مواكبة أساليب البناء الحديث التي توفر الوقت والجهد والتكاليف.
7- عدم وضع حلول جذرية و حقيقية لمشكلة السكن في العراق من قبل الدولة والاكتفاء ببعض الحلول الترقيعية التي ساهمت في تفاقم المشكلة .
8- ضعف امكانيات المعامل الخاصة بانتاج مواد البناء المختلفة بسبب سوء الكهرباء وارتفاع اسعار الوقود والنقل وغيرها من معرقلات العمل .
9- ضعف القدرة الشرائية للمواطن العراقي بشكل عام مما أدّى الى ضعف الاقبال على البناء .
من المسلمات الإقتصادية ان الاهتمام بقطاع السكن والنهوض به سيؤدي الى انعاش الاقتصاد بالبلد بشكل عام وذلك للأسباب التالية :
أ0 انه سيؤدي الى تحفيز وتنشيط أكثر من ستين نشاطاً اقتصادياً في البلد لها ارتباط بقطاع البناء وهذه النشاطات تشمل عدة قطاعات اقتصادية مهمة .
ب0 تحريك عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلد بشكل عام .
ج0 سيؤدي الى إمتصاص جزء كبير من البطالة في البلد لأنه سيوفر الآلاف من فرص العمل للمهندسين والفنيين والعمال المهرة وغير المهرة والاداريين .
د0 سيؤدي الى تنشيط القطاع الخاص وخاصة القطاعات التي لها علاقة بأعمال البناء من شركات وأفراد وأصحاب المصالح والتجار العاملين بمواد البناء والمواد الصحية والكهربائية والعدد وجميع المهن التي تمارس مع أعمال البناء .
هـ0 يؤدي الى رفع القدرة الشرائية لجميع العاملين في هذا القطاع وبالتالي سيزيد إقبالهم على الاستهلاك وبذلك سيزيد من دخل العاملين في بيع السلع الاستهلاكية على اختلاف أنواعها وسينعش تجارتهم .
و. يقلل من الارهاب وذلك بتوفير حماية ذاتية للمواطنين من الوقوع في حبائله لأن الإرهاب يبحث دائماً عن المواطن الفقير المحروم من السكن والغير قادر على توفير أبسط مقومات الحياة الكريمة لأسرته .
من الجدير بالذكر ان العراق وبالامكانيات الموجودة فيه كان من المفترض ان يكون خالياًً تماماً من أزمة السكن وذلك للأسباب التالية :
1. مساحة العراق الواسعة مقارنة مع عدد نفوسه تبلغ 435,052 كيلو متر مربع بينما يبلغ تعداد السكان حوالي 30 مليون نسمة أي ان الكثافة السكانية تبلغ 15 شخص لكل كيلو متر مربع.
2. بلدنا يعتبر من البلدان الغنية بموارده الطبيعية وخاصة النفط الذي لو تم استغلال موارده بشكل صحيح لما كان هناك مشكلة في السكن علاوة على وجود الأراضي الصالحة للزراعة وتوفر مصادر المياه الطبيعية وخاصة نهري دجلة والفرات .
3. الامكانيات العلمية المتوفرة في المجتمع وتوفر الخبرات الهندسية والفنية التي من شأنها ان تساهم بشكل كبير في البناء وحل مشكلة السكن .
4. توفر المصانع والمعامل الحكومية والأهلية والخاصة بمواد البناء والتي تستطيع ان تسد معظم الحاجة الفعلية لمواد الانشاء المطلوبة في عملية البناء .
مما تقدم ولأهمية قطاع السكن في العراق يجب التفكير جدياً من قبل السلطتين التشريعية والتنفيذية بأخذ خطوات جادة وفاعلة للنهوض به بشكل صحيح وعدم الاعتماد على الاجراءات الترقيعية التي لاتساهم في حل المشكلة بل تزيدها تعقيداً على المدى الطويل, وأضرب مثلاً بسيطاً عن هذه الحلول هو توزيع الأراضي على الموظفين وإعطاء سلف العقاري لهم لبنائها , ان هذا الحل والذي ينادي به الكثير على انه الحل الأمثل لمشكلة السكن لو فكرنا به بشكل علمي وبتروي لوجدناه انه سيعقد المشكلة مستقبلاً لأن الأراضي التي تمنح للموظف ومساحتهاعلى سبيل المثال ثلاثمائة متر ستوفر فرصة السكن لعائلة واحدة متكونة من اربعة أو خمسة افراد أو أكثر بقليل بينا لو تم بناء عمارة متكونة من خمسة طوابق مثلاً و كل طابق يتكون من شقتين وعلى طريقة البناء الحديث سيكون المجموع عشرة شقق على نفس القطعة اي انه سيتم توفير سكن لائق لعشرة عوائل وبنفس المساحة من الارض وبذلك سيتم توفير المساحات المستغلة من الأرض وكذلك سيكون هناك توفير في حجم خدمات البنية التحتية( الكهرباء والماء والمجاري وغيرها ), ومن خلال هذه الحسبة البسيطة نستطيع ان نقول بأن بلدنا بحاجة الى تخطيط علمي شامل ودقيق لتحقيق تنمية حقيقية في قطاع السكن وذلك بمراعاة الامور التالية :
1. ضرورة حصول القناعة الكافية والنية الحقيقية للسلطتين التنفيذية والتشريعية بالنهوض الفعلي لهذا القطاع الحيوي .
2. اعداد مسح شامل ودقيق لعدد الوحدات السكنية التي يحتاجها البلد وحسب المحافظات والأقضية والنواحي وصولاً الى القرى الصغيرة .
3. اعتماد مبدأ التخطيط والتمويل الرئيسي للنهوض بقطاع السكن بجهة واحدة فقط ومنحها كافة الصلاحيات وتزويدها بالخبراء المختصين في مجال البناء وبالكوادر الفنية والادارية الاخرى .
4. إتباع معايير ومتطلبات التخطيط العمراني الحديث للمدن ,بدلاً من التوسع العمراني العشوائي , وبما ينسجم مع متطلبات التنمية المستدامة في البلد.
5. اعتماد مبدأ التنفيذ اللامركزي مع وضع نظام رقابي دقيق يضمن سير عملية التنفيذ بصورة صحيحة ويجنبنا عملية التبذير والفساد في مراحل العمل .
6. رفع سقف التخصيصات المالية لقطاع السكن في الميزانية العامة للدولة وذلك لأهميته الكبيرة بين القطاعات الأخرى ولدوره الهام في تحفيز الكثير من النشاطات الاقتصادية في البلد.
7. توجيه سياسة البناء في العراق باتجاه البناء العمودي وتوجيه الخارطة الاستثمارية بهذا الاتجاه والتركيز على المجمعات السكنية العملاقة متعددة الطوابق الجاهزة التركيب والتي يستخدم فيها الحديد السابق الجهد والهياكل الخرسانية المسلحة السابقة الصنع لتقليل الكلفة في العمل .
8. التأكيد على الاستعانة بالخبرات الهندسية المحلية والعربية والأجنبية في جميع مراحل العمل وخاصة في اختيار المواد الداخلة في البناء بما يلائم ظروف العراق المناخية .
9. منح التسهيلات المصرفية اللازمة لضمان ديمومة عمليات الاستثمار بشكل سريع وفعال .
10. محاربة الفساد الاداري المستشري في معظم مفاصل الدولة وخاصة في الحلقات الادارية الخاصة بالعملية الاستثمارية والتي من شأنها إعاقة عملية البناء والاستثمار.
11. تذليل كافة الاجراءات الروتينية التي تتخلل عمليات الاستثمار في البلد وتفعيل آلية النافذة الواحدة التي أقرتها هيئة الاستثمار(والتي لم تطبق بشكلها الصحيح على أرض الواقع) لإختصار الوقت الذي يعتبر عاملاً مهماً للنهوض الاقتصادي في البلد .
12. الاستعانة بخبرات القطاع الخاص العراقي وجعله الساعد الأيمن للقطاع العام الذي لايستطيع وحده النهوض بقطاع السكن في البلد .
13. التنسيق السليم عند عملية التنفيذ والتعاون الجيد بين المؤسسات والجهات المختصة في الحكومة المركزية والحكومات المحلية بما يسهل انجاز أعمالها .
14. الاستعانة بخبرات وتجارب الدول الاخرى وخاصة التي تتشابه في ظروفها الجغرافية مع العراق .
15. تحقيق مبدأ العدالة والشفافية في عملية منح وتوزيع الوحدات السكنية , على المواطنين المستحقين لها واتباع معايير العدالة المتفق عليها , وباعتماد أنظمة عمل متطورة وكفوءة لتنفيذ أعمالها بشفافية وبصورة نزيهة وكفوءة واتباع طرق البيع بالتقسيط المريح وبدون فوائد لضمان حصول المواطن الفقير على سكن لائق وعدم اقتصار البيع على الأغنياء فقط .
16. العمل على بناء وتوسيع مصانع الاسمنت لتشمل جميع المحافظات لأنها المادة الرئيسية التي تدخل في تركيب مواد البناء للمشاريع الانشائية .
17. العمل على تطوير وانشاء معامل الحديد والصلب العراقية التي تعتبر رافداً لتزويد المشاريع السكنية لغرض توفير العملة الصعبة التي تنفق على استيراد مواد البناء من الخارج .
ختاماً : أود التأكيد على إن العراق بحاجة لعدد هائل من الوحدات السكنية لتغطية الحاجة الفعلية للمواطنين وبهذا يجعله سوقاً كبيراً يستوعب كل ما ينتج من عملية البناء وهذه ميزة كبيرة يتمتع بها السوق العراقي دون غيره مما يجعله مهيئاً لإطلاق عملية بناء كبرى يجب استغلالها وعدم التفريط بها لأنها علاوة على انها تحقق للبلد تنمية مستدامة فأنها تعمل على توفير عدد كبير جداً من فرص العمل تساهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي وتقلل من أزمة البطالة وأزمات أخرى كثيرة وتحقق نمواً اقتصادياً كبيراً في مختلف الميادين الاقتصادية وتحقق استثماراًعالياً للتنمية البشرية , الى جانب القضاء النهائي على أزمة السكن التي تقضّ مضاجع العراقيين منذ عقود طويلة .
مقالات اخرى للكاتب