ربما أهم ما في حياة الناس في أي مجتمع كان بدائي أو متحضر من بعد إشباع حاجاتهم الأساسية والضرورية هو السياسة. فلو افترضنا أي مجتمع وإن كان بدائياً خلا من السياسة بأدنى مفهوم لها وأبسط مظاهرها فلن تطول مدة وجوده على الأرض حتى ينقرض، أما في المجتمعات المتحضرة فقد لا تنقرض بخلوها من السياسة، بل قد يطول وجودها أمداً أطول في تناحر وتجاذب حتى يتبدل الحال نحو الأحسن أو الأسوء، ما هو أفظع حتى من الإنقراض. العقل البدائي يفكر بحاجاته الأساسية وأمانه، وربما ببعض المكانة الاجتماعية بأبسط أشكالها، وعندما يفقتر هذا المجتمع إلى السياسة فما يحصل أن أفراده ربما يتفرقون أو على أكبر تقدير سيأكل بعضهم بعضا بلا ثارات وبلا تمثيل وينتهون. أما في مجتمع متحضر، فالناس تتعدى حاجاتهم ومطالبهم لتصبح أكثر تعقيدا، فالمكانة الاجتماعية والمهنية والأسرية والتفكير بالعلم والمعرفة والجماليات والكماليات وكل ما من شأنه أن يرتقي بالإنسان إلى أكمل ما يطمح، عندها تصبح السياسة بدورها مهمة أكثر تعقيدا. فما الذي يحصل عندما تفتقر تلك المجتمعات للسياسة بمعناها الذي تستحقه في مجتمع طموح؟ قد لا يأكل الناس بعضهم بعضاً وينتهون بسرعة بلا معاناة ولا قهر، بل سيحصل لهم كما يحصل عندنا. وما يحصل عندنا هو أفضع ما حصل ويحصل في العالم وبتاريخ البشرية، فعندنا أمسى الناس يتمنون لو ينتهون برحمة.
السياسة كما نفهمها ونؤمن بها هي تلك العملية التي تمكن صاحبها من تسخير كل ما أوتي من إمكانات معنوية ومادية، نفسية وعقلية من أجل تحقيق مطالب وحقوق الشعب، وأقصى ما يمكن من السلام والوئام بين أبناء الأمة الواحدة وبينها والأمم الأخرى. وبهذا المعنى، فالسياسي لا بد أن يتصف بالحكمة، مفاوض ذو حنكة، يجادل بسعة صدر، ويحاور بود حتى يصل إلى قناعة بما يتفاوض أو يقنع الطرف الآخر لمصلحة أمته، وقد يلجأ لأساليب في الترهيب أو الترغيب غير المباشرين بقصد أو دون قصد. وإن كانت لديه قناعات دينية وأخلاقية ومباديء إنسانية عالمية، فلن يرضى إلا أن تكون العملية السياسية مرضية لجميع الأطراف لضمان سلامة الجميع، وهكذا يضمن الجميع أمنهم وسلامتهم وتستمر الحياة. وبهذا فإن السياسة مهارة وفن الإقناع والتفاوض بلا خسارة. ولو أن ذلك يتحقق، لتجنب العالم حروباً ونزاعات، وما كنا ألفنا الحياة بهذه الفوضى وهذا الظلم والاستبداد، ولما صار البشر في بلادنا أرخص ما على الأرض.
ربما لن نجد من يختلف معنا بهذا المفهوم للسياسة، إذ لا شك أن من يقوم بالعملية السياسية لا ينتهج سبيل من يقوم بالعمليات العسكرية. إلا أن أية عملية عسكرية أو حرب ما لا بد أنها مسبوقة بعملية سياسية، ولا شك أن تكون فاشلة. لماذا؟ إما أن من يتولى العملية السياسية ليس بسياسي أصلاً، أو أنه سياسي محارَب. وتأسيسا على ذلك، فإن تسمية أغلب من يحكمون العالم بالسياسيين في نظرنا خاطئة مئة بالمئة. العالم يحكمه أحد ذانيك النوعين، أغلب من يتولون أمر العالم هم من الباحثين عن مجرد التسلط والسيطرة، دعاة حروب لا سلام. وفي الغالب لا يمكن أن يصل أي داع للسلام مهما بلغ من الحنكة والعلم والسياسة إلى ما يطمح إليه لتحقيق السلام، فمثل هذا يتداعى أمام جنود الشيطان، عصابات الإجرام، الخونة، المتسللين، وحتى بتأثير الوصوليين والمنافقين، وهؤلاء يستخدمون كل الوسائل وأقل ما يكون من بينها تسخيرهم ما يمكن أن يسخر من الأموال لشراء الذمم، وبالتهديد والإرهاب، وربما أغرب الوسائل التي يلجأ بعضهم إليها ولا يقوى على إخفائها فتفضحه تصرفاته أو بعض ما يقتني وما يتعامل من الغرائب في استخدام السحرة لتسخير الجن والشياطين وما أمكن من قوى غيبية وخارقة عسى أن يصلوا لغاياتهم غير المشروعة، مما لا يستخدمه أو يستعمله السياسي الحقيقي.
السياسي الحقيقي يواجه عادة بحروب وتحديات وتصديات، مما يضطره في نهاية المطاف إما للإستسلام لقوى الشر أو يواجهها في تركه ميدان السياسة للخوض في ميادين الحروب، وبهذا الصدد هنالك قول إن أردت السلم فاستعد للحرب. ونعلم أن ثمة من يحكم العالم، ما زال يسيطر فيه من تبنى أقصر الطرق وأبشعها للنفوذ والسيطرة.
لقد طرأ جديد في عالم السياسة، هو ما يحصل عندنا، صرنا نرى الإبداع والعجب مما عندنا. والحق لا ندري ما نسمي هؤلاء الذين يسمون هم أنفسهم بالسياسيين. ولكن لنسهل الأمر ونريح عقولنا من التفكير بخيارات متعددة للتسمية، فلنصرف عنهم صفة أساسية في السياسي في كونه عارفاً حقيقياً بما يدور من حوله، كيف ولماذا وإلى متى. والنماذج التي تواجدت عندنا كثيرة، منها ما أوجدها تكالب الحاقدين على العراقيين عبر الزمن، أو أوجدها حظهم العاثر كما يقول بعض العراقيين يئسا. أيا كان، فتلك النماذج كثير منها لا يمت إلى السياسة بصلة.
من هو السياسي العراقي بنظرنا؟ يمكن أن نعرف ذلك النوع الشائع مما يسمى بالسياسي العراقي: هو ذلك المتطفل، الوصولي الذي لم يتمكن عبر مراحل حياته أن يثبت كيانه كإنسان عارف عامل منجز، وظن أنه استطاع ذلك من خلال تطفله على ما ليس من شأنه، وسرقته فرص غيره من الكفوئين المخلصين، وكذبه على نفسه وتصديقها بأنه أهل لما صار عليه ولا يجد فيه الرعية إلا ما يلوث تراثهم وتاريخهم ويخزي حاضرهم ومستقبلهم.
يشاهد العراقيون تلك النماذج ويندهشون كيف تسلل هؤلاء وصاروا يتحدثون عن نضالاتهم المزعومة من أجل الوطن، وكيف صاروا يتحدثون اليوم عن حبهم لهذا الوطن وهم يسرقونه في وضح النهار وبلا خجل ولا خوف ولا وجل. بعض المظاهر التي توحي بحق أن هؤلاء لا يملكون أدنى فكرة عن مكانة السياسي أو الشخص المسؤول واحترامه لذاته، ونعرف أن احترام الذات ينعكس على احترام الآخر، وعن تغاضيهم عن حقوق الناس ومطالبهم وأولوياتهم. فرغم تعالي بعضهم وغيابه عن ناظر الجمهور وعن مهامه وواجباته، نراه يظهر وبصورة مخزية في الفضائيات تحت ضغط أحد المهووسين بدوره أيضا بالسلطة بطريقته الإعلامية وقد إنساق تماماً لهذا والذي أخذ يستدرجه مرتبكاً أمامه مبرراً له وكأنه بمحاكمة سيعاقب بعدها من قبل ذلك الإعلامي حتى وإن كان مبتدءا، حتى وان عُلمت خلفيته التي لا تمت بصلة للنزاهة والثبات على مبدأ، فلا يميز ذلك السياسي بين ما صالح أو طالح وبين ما هو رسمي أو غير رسمي، بل لا يميز بين من له حق المحاسبة أو من يتلاعب به من الوصوليين مستغلاً صلاحيات مهنته ليصطاد في المياه العكرة فيحقق بدوره مآرب أخرى على حساب معاناة العراقيين وليزداد الطين بلة والماء أُسونة، ينصاع للكل ويسمح في أن يملي عليه أية إرادة عسى أن يرضى عنه ويعتقه إذ يرى أنه منه أشر، متجاهلاً بل جاهلاً في الأصل حق الشعب في ذلك، ومتغافلاً عن حق الشعب في أن يجد فيه همة للعمل والإنجاز بدلاً من همته في دفاعه المستمر عن نفسه وتبرير تقصيره لمرات ومرات، ناهيك عن الخضوع والتملق، الضعف والخنوع الذي يظهره هؤلاء للقوى الخارجية والتي ما عادت خافية على أبسط الناس، فيضيعوا كرامة هذا البلد وأبناءه، مما يؤشر لدينا دليلا ًخطيراً على أن هؤلاء ليس لديهم أدنى تقدير لأنفسهم وهي صفة أي إنسان عادي يعرف قدره قبل أن تكون صفة للسياسي الحصيف المحترم، وأكثر من ذلك وفضلا ًالأدهى وأمر في سفك دماء العراقيين ويظهر الإعلام ذلك أنها أموراً عادية تحدث وببساطة، فما عاد منهم من يجد حرجاً في التصريح مستغفلاً بعض من جهل حقيقتهم أو سلم الأمر لصاحب ألامر، في أن ما آلت إليه حالهم التي طالوها بخير البلد وكأنه ميراث آبائهم وأجدادهم ينفقونه أو يعبثون به كيف يشاؤن، ومنهم من أخذوا يتحدثون عن مقتنياتهم الثمينة التي لا يبتاعوها إلا من البلد الفلاني، أو عن عطاياهم التي يتفضلون بها على العراقيين بتنازلهم عن التقاعد الذي منحوه هم لأنفسهم بلا حق.. وكأن العراقيين ينتظرون الصدقات، وكأن العراقيين لا يعرفون أي مال يظنون أنهم يتصدقون به عليهم ومن حق من. هذا أقصى ما وصلت إليه عقول هؤلاء، وهذا أقصى ما تحركت به ضمائرهم النائمة، ولو حقاً أرادوا خيرا لهذا البلد لشغلوا أدمغتهم بأقل طاقاتها لإيجاد الحلول بأبسطها، حتى وأنها في متناول اليد، فينصفوا من تأملوا فيهم خيرا لتوفير العيش الرغيد الذي هو أقل ما يمكن للعراقي الحصول عليه وبلا منة. ولكن لا فائدة، يعرف الجميع كيف تسلل الكثير من أولئك إلى مراكز السلطة وهم لا يفقهون فيها شيئا، ويستطيع المراقب وغير المراقب بنظرة واحدة ليكشف مستوياتهم بجميع الأصعدة فكريا وعلميا واجتماعيا..جهل بأبسط المفاهيم التي ترد في السياسة، كل يفسرها كما يريد أو كما يظن بلا علم ولا دراية، همهم الوحيد الحفاظ على ما حققوه من إنجازات وحيازات شخصية، وتتجلى طموحاته في حيازات أكثر وأكبر بشتى أصنافها وأنواعها، وليملؤا بنوك العالم بأموال العراق المنهوبة، ويغوصوا بها وأبناؤهم وأحفادهم من بعدهم ظانين أن عاقبتهم خير على حساب من دفعوا حياتهم ودماءهم عبر عشرات السنين فداءاً لوطنهم وهم صابرون. ولكن ما زال العراقيون يجدون للخير بقية وإن قل أو ندر، وبعدها لا مجال للعبث ولا مبرر للروية، فلا بد يوماً أن الصبر سينفذ، وإذا ما الصبر نفذ، فانتظر غضبة الحليم.
مقالات اخرى للكاتب