أجمل ما قرأت عشية فك الحصار الداعشي عن "آمرلي" هي الأبيات الثلاثة التي وضعها أحد الأصدقاء على صفحته في "الفيس بوك"، أبيات الجواهري الشهيرة: (نحن الذين أعرنا الكون بهجته.. لكنما الدهر إقبالٌ وإدبارُ.. سبحان ربك كيف الأمر منقلب.. وكيف تلعب بالأدوار أدوارُ.. أنا العراق لساني قلبه ودمي.. فراته، وكياني منه أشطارُ). قرأت الأبيات فخطر لي أن أقول لقائلها وراويها ـ أي نعم، فالبلد الغارق في خيباته، الذي كثرت في ظهره سكاكين الأعداء، وصار جيشه "علكة" في فم "اليسوه والما يسوه"، يتنفس اليوم وتتحرك أعضاؤه كمارد يصحو من غفوة طويلة. أمّا العنوان فاسم مدينة صغيرة ما كان للعالم أن يسمع بها لولا هذه الأحداث. فلا هي بغداد ولا البصرة، لا هي الموصل ولا الأنبار، إنما "آمرلي" التي يقطنها أناس مسالمون، طيبون كالإيزيديين والشبك، لا نكاد نسمع بهم ولا ندري عن حياتهم أيّ شيء. مع هذا، هم يكادون الآن أن ينقذوا العراق من التفكك بسبب صمودهم الأسطوري، الأمر الذي حرّك فينا الدماء واستنهض في أرواحنا الهمم.
"آمرلي" كانت حوصرت منذ ثمانين يوما تقريبا، وكان مقدرا لمصيرها أن يكون شبيها بمصير سنجار ومخمور و"العلم" لولا أنها أقسمت: لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ثم قاتلت كلبوة تدافع عن أشبالها. عضّت على نواجذها وهي تتأمل حشودهم المحيطة بها، لم تنتظر طائراتٍ تفك عنها الحصار بل أعانت نفسها بنفسها فكان أن تحولت لرمز وطني ملهم، أو أسطورة معاصرة بعثت الدم في عروقنا وذكّرتنا بما كنا عليه وما يتوجب أن نبقى عليه: نحن الذين أعرنا الكون بهجته.. لكنما الدهر إقبالٌ وادبارُ.
درس "آمرلي" العظيم هو هذا؛ أن تتحول في لحظة نكسة وطنية مريرة إلى مدينة مشعة بقيم الصمود، وهو ما كنا نحتاجه كي ننهض. كيف لا تكون كذلك وقد قيل ان 300 امرأة من نسوتها حملن السلاح ومعهن صبيان لم يبلغوا الحلم! أم كيف لا تكون قلعة رمزية لنا وقد تواتر أن أهاليها واصلوا الليل بالنهار قياما وقعودا وعلى جنوبهم يقاتلون الذباحين الذين أحاطوهم كالليل البهيم! ولكن هل هذا استثنائي في سير المدن والشعوب؟ كلا بالطبع، فحين يهاجمك عدو ما، عليك أن تقاتله ولو بالحجارة، عليك أن تقف في بلعومه وتمزقه قبل أن يأكلك. فلماذا صمدت "آمرلي" بينما انهارت مدن كبرى كالموصل وتكريت والفلوجة؟ سؤال تناقله الناس وأضاؤه بعضهم بآراء قد تصدق وقد تخيب. منهم من عزا الأمر لوجود حواضن للإرهاب في تلك المدن كانت كحصان طروادة، بينما "آمرلي" خلت إلا من محبتها لبلدها ونفسها والحياة. ومنهم من زعم أن المدينة علمت مسبقا أنها سوف تُنحر لو وصلها الدواعش لوجود اختلاف مذهبي يتيح لهم إمعان السيف في "الآمرليين" كما أمعنوه في أهالي قرية "بشير" والأيزيديين والمسيحيين. لذا استماتت في الدفاع عن نفسها وهي تقول: الموت واحد في الحالين، فان أمت وأنا عصية عليهم، خير ألف مرة من أن يقتلوني صبرا ويعلقوا رأسي على رمح طويل.
بيد أن هذه التأويلات ما كانت لتغير من النتيجة شيئا؛ آمرلي صمدت ومرغت أنوف الدواعش بالوحل. بنسائها وشبانها وشيوخها. بصبيانها الذين انتشرت صورهم وهم يحملون البنادق مبتسمين لمرأى الموت. لذا صارت المدينة المنسية سببا في بث الأمل فينا، نحن الذين انقلب بنا الأمر كما يقول الجواهري فانتكسنا و"سبحان ربك كيف الأمر منقلب.. وكيف تلعب بالأدوار أدوارُ".
نعم يا قائل الأبيات وراويها. كنا انتكسنا قبل "آمرلي" وفقدنا الثقة بأنفسنا. ثم ما هي إلا أن تناهت لنا أنباء النسوة والصبية المحاربين، حتى انتفض فينا عرقٌ رافديني نعرفه، فسار من سار لحومة الوغى ولسان حاله يردد ـ أنا العراق لساني قلبه ودمي.. فراته، وكياني منه أشطارُ.
الخلاصة: "آمرلي" كانت الشطر الملهم في جسد العراق، فانتظروا تحرره كله قريبا إني معكم من المنتظرين.