الإنسان نتيجة لما طبعه ونمطه الزمن الماضي ؛ فللوراثة أثرها على روح المرء وهو جنين, وللتربية المنزلية أثرها وهو طفل, وللبيئة طابعها وهو شاب, وكذلك هناك اثر للكتب التي يطالعها والأصحاب الذين يعقد معهم أواصر الصداقة كل هذه العوامل وغيرها تتعاون على تشكيل شخصية الإنسان وتكوينه وصبه في قالب معين. وما من إنسان يستطيع أن يتجاهل الماضي وأثره البعيد في تكوين شخصيته وكذلك لا يستطيع أن يغفل التفكير بالمستقبل, وليس يكفيه أن يفكر في الحياة الحاضرة وحدها بل لا بد من التفكير في الوجهة التي ستؤول إليها حياته…يقول الشاعر وردزورث:”إننا نحيا بالإعجاب والتقدير والأمل والحب”.ولقد كان التحليل النفسي في بداية عهده يحاول ان يترجم حالة المريض الحاضرة ويتفهمها ثم يكون فكرة عن الماضي! أما الآن فيقول كارل يونك انه قد حان الوقت لتفهم المستقبل في حالة المريض الحاضرة-كيف ينظر للمستقبل؟ وما هي الأشياء التي يتطلع إليها؟ وما هي خططه التي يرسمها ويعدها؟ وما هي الآمال التي تجيش في صدره؟ كل هذه الأمور جزء من نفس الإنسان, ولا مغالاة البتة في القول بأن قيمة الحياة الإنسانية يمكن أن ترى من خلال الآمال المستقبلية التي تخايلها وتسرها, والأهداف والمطامع التي تتطلع إليها. يقول الشاعر براوننج ” كل ما تمنيت أن أكونه ولم أكنه يسليني ويشجعني” فما علاقة المستقبل بالإلهام؟؟الإلهام بمعناه الحرفي أشبه بالشهيق, انه عملية عقلية نستطيع بها إن نمثل المستقبل في الحالة العقلية الحاضرة, فيستقر تخيلاً على ما نرجوه لأنفسنا, وما نبغي فعله, وما نتوق إلى القيام به. والإنسان يقاس إلى حد كبير بجذب المستقبل وضغطه.والحياة بغير الهام هي حياة خالية من الأمل.انهمك في مطالعة التاريخ والحياة الشخصية لعظماء ذلك التاريخ فإنك ستجد أن الأعمال الجليلة كانت من وحي الإلهام. لقد اندفعوا في طريقهم بقوة الآمال والرؤى والأحلام. لقد استجابوا لجذب المستقبل وتأثيره. لم تكن هناك حياة عظيمة بدون الهام, ولم تكن هناك أعمال مجيدة دون حافز من الآمال والأحلام يقول شيشيرون وهو سياسي روماني ” ما من رجل أصبح عظيماً بغير جانب من الإلهام السماوي” .فأين يستطيع المرء أن يكتشف مثل هذا الإلهام وأين يجده؟ كيف يخلق في نفسه هذا الشد الذي يبدع ويصنع المستقبل؟ فقد دلت الأبحاث النفسية الحديثة انه لا يرجى نفع من وراء الوعظ والإرشاد المجرد من ذكر الأمثال, والذي يقتصر على تبيان القواعد. إن لها أثرها لا محالة؛ ولكنه اثر ضئيل وضعيف لا في تكوين شخصية الإنسان. ولكن هناك عدوى تنتقل من تاريخ العظماء ..فمثلاً باوليفر هولمز الذي ولد بعد قرن من صموئيل جونسون الشهير ظل يطالع ويطالع تاريخ حياة جونسون,ومرت الأعوام حتى جاء وقت أصبح فيه هولمز صورة مطابقة لجونسون..كما كتب هولمز يقول: ” لقد تأصلت رابطة قوية وصلة وثيقة بين جونسون الكاتب الانكليزي الشهير وبيني…وكان حسبي أن افتح كتاب (حياة جونسون) في أي وقت فأعرف ما الذي كان يفكر فيه جونسون في مثل سني, في العشرين أو الخمسين أو السبعين, وماذا كان يفعل وماذا كانت مشاعره نحو الحياة… لقد كان الأمر بالنسبة إلي نوعاً من الوئام بين آلتين” .نرى ان ولمز قد كرّ بنظره إلى الماضي بحثاً عن الإلهام ثم دفعه بعقله إلى التفكير بمستقبله راغباً اشد الرغبة أن يجاري مثاله العظيم وان يحذو حذوه. لقد كانت عظمة هولمز منبثقة من الإلهام الذي تسرب إليه من حياة رجل آخر…فعلى المرء أن يبحث عن الشخصية العظيمة التي تلائمه ويبذل جهده ليخلق بينها وبينه صلة وثيقة.أما الصلة الثانية فبينه و بين العقول الكبيرة ولست اعني بطبيعة الحال الدراسات العميقة, وان كان لها مكان في حياة بعض الأشخاص, ولكني اعني كثرة الاطلاع وقراءة ما خلفته لنا هذه العقول الجبارة من آراء عظيمة في الكتب التي ألفوها.يقول صموئيل سمايلز:”إن العظماء والنبلاء لم يموتوا إنهم محنطون في كتبهم, ولكن أرواحهم تسير في خارجها. والكتاب هو صوت حي. انه عقل لا يزال المرء يُستمع إليه”إن مطالعة كتاب قيم وإيجاد صلة بينك وبينه معناه انك تقابل مؤلفه العظيم عن طريق وكيله. الكتب القيمة لا حصر لها ومن شأنها جميعاً أن تزيد من خصب العقل وتلهب الأمل وتضخم شخصية الإنسان وكلما طالع الإنسان كتاباً من هذا القبيل, نما إلهامه, واتسع أفق أهدافه. إن الكتاب مصدر الهام لا ينضب معينه.إن الطريق مفتوح وممهد أمام الإنسان وما عليه سوى أن يعمل وبغير ذلك فإن الإلهام يجف ويذبل لأن هناك قانوناً للحياة العقلية؛ وهو أن كل ما لا يُعبر عنه يذبل في أعماقنا. فالتنفيذ جانب مهم من جوانب الإلهام.كان الفيلسوف ل.جاكسون يقول” انه لا ثمرة من وراء حديثك عن مجتمع أحسن إلا إذا كنت تعمل على خلقه” . إن الخاطر الذي لا يُعبر عنه يفقد قوته و يتضائل, والتعبير لا يكون بالكلام وإنما بالعمل . فالعمل من وقت لآخر وإبراز حوافزنا الجميلة وان نحيا حياة نرجوها هو الهدف فالعمل هو طريق الفهم والتعلم فنحن لا نتعلم السباحة إلا في حين ننزل إلى الماء ونسبح. وما أروعها من حكمة تلك التي كتبها تشارلز كنجزلى حين طلبت منه فتاة أن يكتب لها بيتاً من الشعر على ألبومها فكتب لها” قومي بالأعمال النبيلة, ولا تقتصري على أن تحلمي بها طوال يومكِ” إن للأحلام مكانتها, والإلهام جليل وعظيم ولكن الحياة عمل وفكر معاً. والذين يربطون بين التفكير والعمل هم الذين يتقدمون الصفوف.
مقالات اخرى للكاتب