فى عام ( 1962م ) احتفل العراق بمرور( 1200) عاماً على بناء بغداد ، حيث نظمت احتفالات مهيبة وفعاليات علمية وثقافية رعاها الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم شخصياً ، وبضمنها عقد مؤتمر علمى شارك فيه جمهرة من خيرة المؤرخين المتخصصين بتأريخ المدينة وعدد كبير من أبرز المفكرين والأدباء العرب و لمستشرقين الأجانب ممَّن قدموا دراسات قيمة حول الدور الحضاري الذى نهضت به بغداد فى عصر أزدهارها و ما تعرضت له من أحداث جسام عبر التأريخ . في العام الماضي (2012م ) مرت ذكرى مرور ( 1250) عاماً على بناء بغداد ،. و كانت مناسبة جديرة بالأحتفال أكثر من أية مناسبة تأريخية أخرى ، ولكنها مرت في صمت مطبق وتجاهل متعمد على المستوى الرسمي .ولم يكن ذلك أمراً مستغرباً . كيف يتذكر تأريخ هذه المدينة العريقة ، الزاخرة بالمفاخر و الأنجازات الحضارية حكام غرباء عنها وعن أمجادها ولا يهمهم أمرها و لا علاقة لهم بتأريخها ولا بالحضارة التى تمثلها . وفي هذا العام احتفلت أمانة بغداد ا يوم السبت ( 2/ 11 / 2013 ) في حدائق متنزه الزوراء بما أسمته " يوم بغداد " ( أي اليوم الذي وضع فيه الخليفة أبو جعفر المنصور حجر الأساس لمدينته المدورة ، مدينة السلام .) وهذا التأريخ الذي تتمسك به أمانة بغداد سنوياً مغلوط ولا يستند الى أي مرجع رصين وينم عن جهل فاضح بتأريخ المدينة ، وكان الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم قد شكل لجنة رفيعة المستوى ضمت كبار العلماء والمؤرخين لتحديد اليوم الذى وضع فيه " المنصور " حجر الأساس لعاصمته الجديدة وأستناداً الى توصية اللجنة ، صدر قانون من مجلس الوزراء يوم( 1962 /11/17) عندما كان هذا المجلس هو السلطة التشريعية فى البلاد بتحديد الأيام الأول و الثانى و الثالث من شهر كانون الأول عطلة رسمية لمناسبة ذكرى تأسيس بغداد والذكرى الألفية للفيلسوف الكندى . وهذا القانون لم يتم الغاؤه او تعديله و ما يزال سارى المفعول . على هامش احتفالية يوم بغداد هذا العام القى امين عام مجلس الوزراء علي العلاق، كلمة يقول فيها بالحرف الواحد : " بغداد تختزل تاريخ العراق وتشكل محطات تاريخية بما تزخر به بأحداث كبرى ومنعطفات حادة وبكل ما ضمت بين محلاتها وأزقتها من أعراق شتى ومكونات عدة"." كلام جميل ولا شك ولكن أين كان الحزب الحاكم في العام الماضي عندما تجاهل الأحتفال بمرور ( 1250 ) سنة على بناء مدينة المنصور وأم الدنيا ومركز الأشعاع الحضاري في عصور أزدهارها . لم يكتف السيد العلاق بتصريحه ( التأريخي ) الخطير ، بل زاد الطين بلة عندما تحدث عن أمور لا يفقه فيها شيئاً ! فقد اكد " ان الحكومة لاتريد بناء (ناطحات سحاب ) في بغداد وانها تريدها "بسيطة وعفوية"، وتحتوي على "محطات نتنفس فيها عبق الماضي وذكرياته" . ونحن من حقنا أن نتساءل هل أختفت ( محطات التنفس وعبق الماضي وذكرياته ) عن باريس ولندن وبرلين وفيينا وجنيف وروما وموسكو وطوكيو وكوالا لامبور ومئات المدن الأخرى عندما تم بناء ناطحات السحاب فيها ؟ الا تتجه المدن الكبرى في الشرق والغرب الى البناء العمودي لمزاياه العديدة .الا يحتوي التصميم الأساسي لمدينة بغداد ( الذي أعده الخبراء البولونيون منذ ثمانينات القرن المنصرم وقبرته حكومة سياسي الصدفة) على خطط لبناء المركز المدني في وسط بغداد بما ينسجم مع الطراز المعماري العباسي ويعيد أحياء أهم وأشهر معالمها التأريخية ؟ وكيف يمكن توفير الخدمات العامة لمدينة مترامية الأطراف مثل بغداد التي توسعت افقيا بشكل عشوائي وعلى نحو يثقل كاهل امانة بغداد ويسبب مشاكل جمة في التنقل داخل المدينة ، حيث يخسر البغداديون افضل ساعات أيامهم في الأختناقات المرورية والسيطرات التي لا تقيم وزنا لهم وتمتحن صبرهم يومياً بالمعاملة المهينة . ولكن السيد العلاق لم يبتعد عن الحقيقة حين أكد ان : " الحكومة لاتريد بناء "ناطحات سحاب" في بغداد وانها تريدها "بسيطة وعفوية " فكل شيء يجري اليوم بعفوية في عراق الجهل والفساد . وتردي الخدمات والفوضى التي نشاهدها الآن في بغداد ، ناجمة عن هذه العقلية العشوائية وعن الأرتجال في صناعة القرار و تسيير امور البلاد والعباد . اليست هذه العقلية هي الفوضوية بعينها ، التي لا تؤمن لا بالعلم ولا بالتخطيط ، ولا ترى من حولها كبف يتقدم العالم بخطى متسارعة ومذهلة في التطور العلمي – التكنولوجي وكيف يضفي الأبداع الهندسي المعماري جمالاً أخاذاُ على المدن العصرية ويوفر للأنسان حياة لائقة و بيئة صحية ومريحة . حقاً ان العقلية العفوية الجاهلة أشد فتكاُ بالشعوب من الغزو الخارجي ومن الكوارث الطبيعية والأوبئه حين تقذف بها المصادفة العمياء الى سدة الحكم ، وكلام السيد العلاق مضحك ومحزن في آن واحد ، مضحك ويثير السخرية لأنه بعيد عن العلم والمنطق ومحزن لأنه ينم عن نمط تفكير يعيد البلاد الى عصور الظلام و يؤدي بها الى التخلف ان لم يكن الى التهلكة ، وهذا التفكير العفوي هو الذي اوصل العراق الى ما هو عليه اليوم .
مقالات اخرى للكاتب